خلينا نحسبها.. كيف نفكر؟! سؤال ينبغي أن يطرحه كل منا على نفسه، عندما يواجه أي أمر يحتاج منه إلى اتخاذ قرار حاسم.. وهذا هو أساس علم "التنمية الذهنية"، الذي يعتمد على إعادة ترتيب العقل وتمهيده لمواجهة أي مشكلات لم يمر بها من قبل، وتدريبه على اتخاذ القرار الصحيح الذي يزيد من احتمالات نجاحه، أيا كان ما يواجهه.. وفي البداية، قد يبدو هذا أمرا بسيطا، أو أمر لا يحتاج إلى دراسة أو تدريب، باعتبار أن القاعدة تقول: "إن كل شخص راضٍ تماما عن عقله، ومستاء كثيرا من رزقه". وفي زمننا هذا، يحتشد العقل بمئات، وربما آلاف المعلومات.. وهذا يمنح كل إنسان ثقة في عقله ومعلوماته.. ولكن الواقع أن هذه الثقة زائفة.. وإلى حد كبير.. فالعقل بالفعل محتشد بآلاف المعلومات، ولكنها في عقله أشبه بقطع من الجواهر، ملقاة في إهمال، وبلا ترتيب، في صندوق ثمين.. ياقوت وألماس وزمرد وذهب وفضة، وكل معدن نفيس آخر.. ولكن لأنها ملقاة بإهمال في ذلك الصندوق الثمين، فصاحبها يبذل الكثير من الجهد حتى يجد الجوهرة التي يريدها عندما يبحث عنها.. ثم إن الصندوق مكتظ للغاية، حتى أنه يصعب عليه وضع مجوهرات جديدة به.. وبالنسبة إليه فكل شيء موجود، وعلى أعلى مستوى.. الصندوق ثمين.. والمجوهرات عديدة.. ومختلفة.. ومتنوعة.. وثمينة.. وعلى الرغم من هذا، فهو ما زال يعاني.. يعاني في البحث عما يريد.. وفي إضافة قطع جديدة إلى الصندوق.. لديه كل شيء.. ولكنه يعاني.. فلماذا؟! وهنا يأتي دور التنمية الذهنية.. إنها أشبه بعلم يعمل على إعادة ترتيب المجوهرات في ذلك الصندوق الثمين، بحيث توضع كل نوعية من المجوهرات في موضع يناسبها، وتتراص في نظام سلس، حتى يتحقق هدفان أساسيان، هما ناتج دراسة هذا العلم.. أول الهدفين هو أن العثور على ما تريد يصير أكثر سرعة ودقة وسهولة، ما دام كل شيء مرتبا منظما، متراصا على نحو منهجي.. وثانيهما أن الصندوق، مع إعادة ترتيبه، سيتسع للمزيد.. والمزيد.. والمزيد.. والصندوق الثمين هنا هو عقلك.. والمجوهرات هي معلوماتك.. والتنمية الذهنية هي العلم، الذي يتيح لك إعادة ترتيب الصندوق، والإفادة من كل ما به من مجوهرات.. والأهم أنه يعلمك كيفية ترتيبه.. وترتيب كل شيء آخر في حياتك.. ومع مواصلة دراسته، تصل إلى ما يسمى "المنهج العلمي للتفكير".. وهذا المنهج العلمي للتفكير، هو الهدف والغاية من دراسة هذا العلم المستحدث.. وهو السبيل الأساسي للنجاح.. في كل شيء.. وأي شيء.. فالمنهج العلمي، لو أنك اكتسبته، يجعلك قادرا على التعامل مع الأمور بواقعية، وعملية.. وعلى سرعة ودقة تحليل الموقف.. واتخاذ القرار.. الصحيح.. وهو يساعدك، وهو الأهم على أن تجعل لعقلك السيطرة الأولى على الأمور، وليس على مشاعرك وانفعالاتك، التي قد تقودك دون أن تدري إلى القرار الخاطئ.. والبداية الأساسية لاكتساب سمات المنهج العلمي للتفكير، هي ألا تتشبث برأي وألا تتعنت لفكر، دون أن تفسح مجالا في عقلك، للتفكير فيه ودراسته.. ولهذا، فهناك مبدأ أساسي، وقاعدة مركزية لا بد من الانطلاق منها.. وهذه القاعدة تقول: " من المستحيل أن تملأ كوبا ممتلئا بالفعل".. فما الذي تعنيه هذه القاعدة؟! لكي نستوعب قاعدة "الكوب الممتلئ"، علينا أن نعود مرة أخرى إلى نظرية المجوهرات والصندوق الثمين.. تصور معي أن لديك بالفعل صندوقا ممتلئا تريد إعادة ترتيبه، فما الخطوة المنطقية التي ستبدأ بها هذا؟ في البداية، ستفرغ الصندوق كله.. ثم ستعيد ترتيبه على نحو منهجي.. لو أنك لم تفرغه، فسترهقك كثيرا محاولة ترتيبه.. وسيضيع منك وقتا أكثر، في محاولة إزاحة كل شيء جانبا، حتى تعيد ترتيب كل جزء.. وسيتضاعف الجهد.. وتقل النتائج.. وربما أخذ منك التعب مأخذه، فتتوقف عن إكمال محاولة الترتيب.. الحل الأسهل (والأمثل أيضا)، هو أن تفرغ الصندوق كله.. ثم تعيد الترتيب.. وفي قاعدة "الكوب الممتلئ"، سيكون عليك إفراغ الكوب أولا.. ثم إعادة ملئه بالماء النقي.. المعنى هنا.. هو أن يكون عقلك متفتحا، وذهنك مستعد لعملية إعادة الترتيب، دون أن تعترضه قناعات سابقة، أو انتماءات متعنتة، أو تعصبات تؤدي إلى غشاوة البصر، والسجن خلف أسوار عقل لم يسفح لنفسه مجالا للانطلاق.. وهذا لا يعني أن تتخلى عن عقيدتك، أو وطنيتك، أو انتماءك.. ولكن فقط أن تكون مستعدا لإعادة تعريف كل هذا، وفقا لقواعد المنهج العلمي للتفكير.. فلو أنك ترغب بالفعل في دراسة هذا العلم، والاستفادة منه كما ينبغي، فلا بد أن تبدأ بإفراغ الكوب، وأن تستعد لإعادة ملئه على نحو سليم.. ومن أهم قواعد "التنمية الذهنية" ألا تقبل أو ترفض شيئا، قبل أن تتبين ماهيته أولا.. فلو أن عالما دخل إلى معمله، وفي ذهنه ضرورة إثبات نجاح تجربة ما، فهو عالم فاشل.. ولو أنه دخل إلى معمله، وفي ذهنه ضرورة إثبات فشل تجربة ما، فهو أيضا عالم فاشل.. الصحيح هو أن يدخل إلى معمله، دون أي أحكام مسبقة.. ويجرى التجربة في حياد تام.. ونتائج التجربة وحدها هي التي تحسم الأمر.. أهي ناجحة؟ أم فاشلة؟ الأساس إذن هو الحيادية.. وهي عدم إصدار أحكام مسبقة.. وهي الاستعداد لقبول الجديد.. كل جديد.. والحيادية، على الرغم من بساطة الكلمة، هي أمر ليس بالهين.. ففي كل مكان في العالم، ينقسم الناس وفقا لتفكيرهم، إلى ثلاث فئات غير متساوية.. تسعون في المائة منهم (في أي مجتمع)، ينتمون إلى ما يسمى "الانحيازية".. وهي تبدأ من الانحيازية المطلقة، وحتى الانحيازية المعقولة.. وثمانية في المائة منهم (في أي مجتمع أيضا)، ينتمون إلى ما يسمى "التعادلية".. وهي تبدأ أيضا من التعادلية التي تميل إلى شيء من الانحياز، وحتى التعادلية القادرة على تجاوز الانحياز إلى حد كبير.. يتبقى لدينا (في أي مجتمع) فئة لا تزيد عن اثنين في المائة، وهم الذين ينتمون إلى ما يسمى "التجردية".. والفئة الأخيرة -مع ندرتها- يكون منها الفلاسفة والمفكرون، وكبار العلماء في كل المجالات، وكل مضمار.. وكل هذا مجرد مقدمة.. مقدمة لعلم "التنمية الذهنية".. ولنا بقية بإذن الله.