إذا كنت تتساءل ما الذي يحمله المستقبل لمصر، ربما تحتاج إلى العودة بالزمن إلى الوراء وقراءة الثلاثية الشهيرة لأديب نوبل نجيب محفوظ، وذلك على حد تعبير جويل ويتني المحرر بصحيفة "ذا ديبلومات" في تقرير نشرته مجلة نيوزويك الأمريكية، بعنوان "كيف تنبأ محفوظ بمستقبل مصر". في تقريره قال ويتني إن الروائي نجيب محفوظ وثّق الحياة في مصر في السلسلة التي بنيت أحداثها على خلفية ثورة 1919 ضد الاحتلال البريطاني، مضيفا أنها تبرهن على بعد نظر محفوظ، بما يمكن القول إنها مثل رفيق أدبي للانتفاضة الأخيرة.
الثلاثية التي تحكي قصة القاهرة ما بعد الحرب من خلال عيون السيد أحمد تاجر الطبقة الوسطى العليا الذي يحكم أهل بيته بتسلط، ويظهر بصورة تقليدية قوية داخل بيته، وليبرالي فيما يتعلق بالسياسة، وزير نساء ليلا. وعلى الرغم من أنه يرفض أن تنظر زوجته أمينة أو بناته خارج المنزل، فإنه يمضي الليل مع أصدقائه يشرب كميات وفيرة من الخمر ويشاهد النساء الفاجرات يغنين الأغنيات الشعبية في ملابس فاضحة.
وأشار إلى أنه في الوقت الذي تتركز القضايا في مصر على عدة موضوعات رئيسية، هي: دور المرأة في المجتمع، والإسلام المعتدل في مواجهة الإسلام المتشدد، والديمقراطية، والقمع العسكري، فإن ما يميز الثورة الأخيرة أن النساء كافحن إلى جانب الرجال في ميدان التحرير. غير أن هؤلاء النساء تم تهميشهن الآن في تشكيل الحكومة الجديدة، كما ألقي القبض على بعضهن من قبل الجيش وتعرضن لمذلة "كشوف العذرية".
ورأى أن المعارك القديمة ذاتها لا تزال قائمة، فالرئيس الجديد محمد مرسي وعد باحترام المعاهدات الدولية، علاوة على اختيار امرأة وقبطي نائبين له، لكنه يأتي من جماعة الإخوان المسلمين والمعروف عنها تهميش المرأة والأقباط.
ويصف محفوظ الأيام الأولى لقاهرة ما بعد الثورة التي تحظى بهدوء هش: "هنا كان ضوء الصباح رائعا وخجولا، كان كل شيء يمضي كالمعتاد وكأن مصر لم تنقلب رأسا على عقب، وكأنه لم تكن هناك رصاصات تبحث عن الرءوس والصدور، وكأن الدماء البريئة لم تغرق الأرض والجدران".
وينتقل ويتني إلى جزء من روايات محفوظ الذي يصف القاهرة بأنها "تعود إلى الحياة.. قلب الأمة ينبض، هي الآن على قيد الحياة وفي ثورة"، وهي مشاعر تشاركها الروائية أهداف سويف التي تتحدث عن النشوة ذاتها بعد انتفاضة 2011، وتقول إن أصدقاءها الذين يتناولون مضادات الاكتئاب نسوا أخذ أقراصهم على مدى 20 يوما من الثورة، وألقوا بها بعيدا الآن.. هذا هو تأثير الثورة المصرية".
في ثلاثية محفوظ فرحة الانتصار لا تستمر، وكما ترتجف مصر نحو الاستقلال يبدأ نسيج حياة السيد أحمد في التفسخ، وتعارض زوجته سلطته عندما تزور مسجد الحسين الذي تعشقه دون موافقته، ويشاركه ابنه الأكبر الملل من الزواج، ويخاطر بسمعته لرؤية عشيقاته، إلى جانب أن ابنه الأوسط يتمنى الموت فداء لقضية الوطن، هذه التغييرات في بيته تجعله في البداية يضاعف من قمع عائلته، إلا أنه يرق في النهاية عندما يُقتل أحد أبنائه ويحاصر منزله الجنود ويتم تجنيده في أعمال السخرة.
ومع إصدار "السكرية"، الكتاب الثالث في الثلاثية على مدى عقود، تعطلت ثورة جديدة في مصر ضد الحكم الأبوي، حيث يكتب محفوظ أن ثمة رسالة وصلت بلغة أو بأخرى (من الزعماء) إلى الشعب المصري: "أنتم قُصّر.. نحن أولياء أموركم"، وعلى ذلك تنتهي الثلاثية بشعور من الخيانة، البلد تحرر من الحكم البريطاني ولكن لا يزال يحكم بواسطة القمع.. في الصفحات الأخيرة يحدث إطلاق النار على الطلاب الثائرين في الشوارع.
وهنا ينتقل ويتني إلى الواقع بقوله يتبقى أن نرى كيف ستتعامل مصر مع الديمقراطية الجديدة؛ فبينما نجحت الانتفاضة هددت الانتخابات الأخيرة السلام الهش في البلاد، وبدا أن الجيش لا يستسيغ الاعتراف بالفائز، وترك مصر في حالة من الشك والغموض في انتظار انكشافها.
ولفت إلى أن الزعيم الجديد محمد مرسي ينحدر من الإخوان المسلمين، إحدى المجموعات الواسعة من الإسلاميين في مصر التي تضم السلفيين، الذين يتشككون في المعتدلين أمثال نجيب محفوظ، وشنوا هجوما على أعماله بزعم أنها تروج للرذيلة.
وأضاف أن محفوظ الذي أطلقت عليه نيويورك تايمز "بلزاك مصر"، كان معتدلا شرسا وناقدا للإسلام المتطرف، حتى أنه تعرض للطعن في رقبته من قِبل إسلاميين عام 1994 بتهمة الإلحاد المزعوم، رغم أنه لجزء كبير من حياته احتفظ بعلاقة طيبة مع زميل دراسته السابق سيد قطب، العضو البارز في جماعة الإخوان، وقال إن محفوظ تعرض للتهديد من جانب الإسلاميين بسبب روايته الرمزية "أولاد حارتنا" التي أعلت شأن العلم على الدين، كما تعرض محفوظ للشتم بعد دعمه أنور السادات في كامب ديفيد معاهدة السلام مع إسرائيل، وتابع أن محفوظ دعم سلمان رشدي خلال أزمة الفتوى، وقال في حديث لمجلة باريس ريفيو عام 1992: "أنا أدافع عن كل من حرية التعبير وحق المجتمع في مواجهة ذلك".
وأوضح أن الثلاثية تعرضت للهجوم لكونها تميز بين الجنسين في تصويرها للنساء، لكن يبقى هناك العديد من المدافعين عنها، ومنهم الكاتبة نادين جورديمر التي تقول: "محفوظ كان ينقل اضطهاد أمينة وبناتها كما هو في الواقع" مضيفة: "وهو لا يؤيده".
في الواقع يمكن اعتبار محفوظ نصيرا للنساء، حيث قال ذات مرة: "في صدر العصر الإسلامي كانت المرأة مساوية للرجل.. ثورة 1919 غرست في المجتمع المصري روحا تقدمية وضعت جنبا إلى جنب مع المطالب القوية لتحقيق طموحات المرأة"، كما أنه "يستشهد بعمل الحركات النسائية المصرية والناشئة في مصر، وقياداتها مثيلات هدى شعراوي".
وكشف ويتني أن الفضل في نشر أول ترجمة إنجليزية للثلاثية يعود إلى جاكلين كنيدي أوناسيس، التي كانت آنذاك محررة في صحيفة دابلداي، عندما قرأتها باللغة الفرنسية للنظر في نشرها.
واختتم تقريره بالقول إن السلسلة لا يبدو أنها تشيخ رغم مرور ما يقرب من العقود الستة على نشرها، مشيرا إلى أن روايات محفوظ تسجل صوت ناس أدركوا مصدر قوتهم، وواجهوا الخطر والخوف لتحديد مصيرهم بأيديهم، وربما لم يكن هناك وقت أفضل من قراءتها الآن.