حين يُصبح الخرس هو الحل الوحيد أمامك بعد أن كنت تملأ الدنيا صراخا.. حين يصبح صوتك هو أقل الأصوات همسا.. بعد أن كان صوتك هو الصوت الأعلى الذي يرضخ له الجميع.. عندها تدرك شدة ألم هذه الحالة، وما يُعاني كل من لا زال حقه ضائعا مكمم فمه مكبّل الأيدي، ولا يأتيه أي حق بل ما يأتيه هو إهانات متتالية. حادث جديد حزين ينضمّ لمخزننا الأحزن.. 70 وأكثر من شباب ذهب مشجعا عاد في قوالب خشبية، دون فهم السبب ولا المتورّط ولا نهاية السيل الجارف لدماء المصريين. الكثير يتحدّثون عن أنها مؤامرة وأن الأمن والداخلية أصحاب الدور الضالع والبارز فيها، والأدلة كثيرة؛ غياب محافظ بروسعيد ومدير الأمن وكل رتبة أمنية عن حضور مباراة مهمة على غير المعتاد، عدم تدخّل الشرطة لمنع الجمهور من النزول لأرض الملعب، بل وترك الساحة خالية لهم، وفي لقطات ترى الجندي المركزي يفسح للبعض الطريق.. من سمح لهم بالدخول من البداية بالأسلحة.. الكثير من التساؤلات تؤجّج المشاعر وتزيد من تصديقهم لنظرية المؤامرة.. لكن ما أخشاه.. أن الأمر قد تحوّل لأكبر من مؤامرة يحيكها أعوان المخلوع، أو تنفيذ الداخلية لتهديدها للألتراس بعد إهانتهم في المباراة السابقة، أو تنفيذا لسيناريو "أنا أو الفوضى" التي ردّدها لنا مبارك قبل رحيله.. ما أخشاه أن وضعنا وصل لدرجة من العشوائية والاضظراب دون أي مؤامرات تحاك. الكل يفعل ما يريد في أي وقت يريد بلا حساب.. من يريد قطع الطريق يقطعه.. من يسرق ويسطو.. من يقتل.. كلها أحداث صارت تمرّ بلا أي حساب فقط يظهر المسئول.. يردد نفس الكلام عن المتآمرين الخفيين الذين لا يعرفهم أحد.. ويتخذون مظهر العالم بواطن الأمور ويتخذ مظهر السرية والتكتم؛ في حين أن الخوف الذي بدأ يتحوّل ليقين أن لا أحد من المسئولين يدرك حقيقة ما يحدث من الأساس. عدد القتلى الذين سقطوا بعد الثورة هم أكثر ممن سقط فيها.. وكما لم يتم محاسبة قتلة الأولين لم يتم محاسبة من سفك دماء التاليين. ثقافة جديدة حلّت على المجتمع وهي اعتياد سماع أعداد القتلى ورؤية الدماء، وهو شيء مرعب لأنه حدث في فترة قصيرة للغاية، لا أحد يستطيع أن يجزم أنه يدرك ما يحدث، ولا كيف ولا لماذا ولا متى ستنتهي هذه الحالة الغريبة من الجنون والعبثية الخالصة؛ لأنه منذ البداية لم يتغيّر شيء في السياسة الحاكمة.. نفس طريقة التعتيم من المسئولين.. والتعامل مع الشعب على كونه غرّا ساذجا لا يفقه خطورة الوضع.. حتى تحوّل الأمر إلى تعتيم للتعيم، ثمّ تمكنت حالة إدمان التعتيم وفقد المصداقية هذه لفقدان القدرة التامة على فهم ما يجرى ولا إدراك حقيقة الأمور.. صار الجميع شعبا وسلطة لا يفهمون ما يحدث. الكلام لا أسهل منه.. لذلك لا ثمن له في الأوقات الحالية.. تبرير القتل صار هو المعتاد، وهو ما لا يمكن السكوت عليه، ومن يتبنّى تلك السياسة؛ سواء في السلطة أو في الإعلام أو غيره، لا مكان له في وقتنا الحالي. من يملك مفاتيح حلقات العبث الحالية.. مَن يملك تفسيرا أو على الأقل علما بالمتآمرين؛ فليعلن عنها أو يقوم بدوره في منعها وإلا فليحمل عصاه ويرحل.