عند متابعة القنوات الإخبارية -بالذات الأجنبية- كثيرًا ما نشاهد مظاهرات لآباء وأمهات أمريكيين يطالبون الحكومة بإعادة أبنائهم المجندين من العراق وأفغانستان. ربما يجعل هذا المشهد البعض يعتقد أن هؤلاء القوم يتظاهرون لأجل إيقاف الحرب لذاتها، أو تعاطفًا مع شعبي البلدين المحتلين، غير أن الحقيقة هنا تكمن في أن الغضب إنما يأتي من تعريض الحكومة الأمريكية أبناء المتظاهرين لمخاطر الحرب المباشرة. تلك بالضبط هي المشكلة التي واجهت الحكومات قديمًا وحديثًا: كيف تحقق أغراضك مع انعدام -أو تقليل- تعريض بني وطنك للخطر؟ ذلك السؤال ليس مرتبطًا بالأنظمة الحديثة التي تعتمد إلى حد كبير على التأييد الشعبي لها، بل هو أمر قديم جدًا مثّلت إجابته منعطفًا في شكل وصور المؤامرات وأساليبها. أما الإجابة، فكانت خلق نوع جديد من المعارك غير المباشرة، تمثل فيها الدولة المتآمِرة دور "العقل" بينما تُسنِد دور "العضلات" إلى دولة تابعة، أو جماعة بشرية مأجورة، بحيث يتولى "العقل" توجيه "العضلات" وتمويلها وتسليحها ورسم برنامجها، بشكل يحقق للمتآمرين أغراضهم بالحد الأدنى من الخسائر البشرية. الأمر يشبه كثيرًا "حروب المخابرات" أو "التحالفات السياسية السرية" التي تبرمها الدول الكبرى مع دويلات أصغر أو حتى قبائل أو جماعات داخل الدولة الواحدة، مستغلة وجود مصالح مشتركة بينها وبين تلك الجماعة التي تغريها الوعود بالقيام بدور "منفذ برنامج الدولة المتآمرة". ولكن لتكتمل الإجابة، فقد كان لا بد للمتآمِر من البحث جيدًا عن حليف يلعب له دور "مخلب القط" في المجتمع المراد التآمر عليه، فإن لم يوجد هذا الحليف كان لا بد من خلق ظروف إيجاده، فكان ذلك بداية نشأة نوع جديد من المؤامرات هو "إثارة القلاقل" أو "ضرب وحدة الشعب" في الدول المتآمَر عليها بحيث تظهر فئة صالحة للتجنيد للعمل لحساب المتآمرين. أما في حالة كون "مخلب القط" المذكور دولة كاملة مجاورة للبلد موضع المؤامرة، فكان الهدف يتحول إلى تجنيد حكومة تلك الدولة سواء بالترغيب أو الترهيب، فإما أن تتعاون، أو أن تُحاك مؤامرة جانبية للإطاحة بنظامها الحاكم ووضع نظام مطيع مَرِن. الأمر يشبه كثيرًا ما حدث ويحدث في عصرنا الحديث، ولعل النموذج الأكثر حضورًا هو ما تفعله أمريكا من خلال مخابراتها CIA في دول أمريكا اللاتينية التي تلقبها الإدارة الأمريكية ب"الساحة الخلفية الأمريكية". فالمخابرات الأمريكية لديها اعتمادات مالية ضخمة وخطط كاملة نفّذتها لقلب أنظمة كاملة ووضع أنظمة بديلة في دول مثل السلفادور وشيلي، فضلاً عن مؤامرة اغتيال الثائر الأرجنتيني أرنستو تشي جيفارا، كل تلك العمليات التي كانت "عضلات تنفيذها" من المواطنين اللاتين غير الأمريكيين. وهو نفس النموذج الذي يتم تنفيذه في دول مثل أفغانستان وباكستان والعراق. أما النموذج الذي لا يقل قوّة، فهو تحالف إسرائيل مع ميليشا "جيش لبنان الجنوبي" خلال الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، وذلك من خلال وعدها -إسرائيل- لقائده "أنطوان لحد" بمساعدته على إقامة دولة مسيحية مستقلة. والنماذج لا تنتهي. النموذج الروماني ذلك الأسلوب استُخدِم من قبل قيام دولة الرومان بقرون، ولكن النموذج الروماني أثبت نفسه على الساحة السياسية القديمة. فروما -التي كانت دولة عسكرية سياسية في المقام الأول- كانت ضعيفة الموارد الطبيعية، فكان التوسع والاحتلال من الضرورات بالنسبة لها، ولكن كانت تواجهها مشكلتان: الأولى تمثلت في صرامة قوانينها ونظامها الحاكم القائم على مشاركة الشعب وممثليه في الحكم، وقرار صعب كإرسال أبناء الرومان للحرب لم يكن سهل التمرير من البرلمان "مجلس السناتو" حيث كان الضغط الشعبي على أعضاء المجلس يدفع كثير منهم لتجنب التصويت بالموافقة على أية قرارات تمثل خطرًا على حياة أبناء الناخبين. المشكلة الأخرى كانت احتياج إرسال الجنود للحرب لتمويل بالمال والعتاد والغذاء، وهي موارد لم تكن دائمًا متوفرة للدولة الرومانية. هذا فضلاً عن دعاة الأخلاق والفضيلة الذين كانوا ينددون بأي تورط روماني في أية عمليات قتل وسفك للدماء باعتبارها من أعمال البرابرة لا الرومان الراقين. إذن فالمطلوب كان وجود يد تقوم ب"الجزء القذر المكلف من العمل" بينما يتفرغ السادة الرومان للتخطيط والتوجيه من مجالسهم في البرلمان ودور الحكومة. وقد أثبت الساسة والقادة الرومان براعتهم في انتقاء وتجنيد وتوظيف العناصر القادرة على أداء تلك المهمة، سواء كانوا أنظمة حاكمة كاملة، أو جماعات بشرية داخل الدولة الواحدة. بدأت اللعبة خلال حكم البطالمة لمصر وأبناء عمومتهم السلوقيين للشام، عندما رغبت روما في السيطرة على تلك المنطقة الثرية التي تتوسط طرق التجارة العالمية، فاستغل الرومان النزاع الأسري الداخلي السلوقي، والضعف المسيطر على الطبقة الحاكمة البطلمية، وبدأ التدخل الروماني في شئون الدولتين، فبالنسبة للسلوقيين كانت خطة الرومان تعتمد على دعم أكثر المتنازعين استعدادًا ليكون "كلب روما المطيع" بحيث يصبح هو ملك الدولة، وبالنسبة للبطالمة جرى تحريضهم ضد جيرانهم السلوقيين وتحريض هؤلاء الأخيرين ضدهم، مما أدى لأن طحنت النزاعات الداخلية الدولة السلوقية، وساهمت في انهيارها، بعد أن كانت قد أدت وظيفتها في إضعاف البطالمة بالضربات المتكررة، فما إن انتهى دور أتباع روما في دولة السلوقيين حتى سارع الرومان بغزوها وإعلانها ولاية رومانية. أما عن البطالمة فلم يكن قد حان وقتهم بعد لما كان لهم من بقايا قوة، فامتدت الأصابع الرومانية لعمق صراع أبناء البيت البطلمي على الحكم، فجرى دعم بعضهم ضد بعض، مع التخلص من الشخصيات القوية بينهم، حتى تم إفراغ الدولة من رجالها، وتوريط آخر حكامها -كليوباترا السابعة- في سلسلة من الحروب والمعارك ثم توجيه الضربة القاضية لها في موقعة أكتيوم البحرية، ودخول أغسطس قيصر (أوكتافيوس) لمصر معلنًا إياها -بدورها- ولاية رومانية تابعة للإمبراطور مباشرة. نفس الدور لعبته روما مع دولة العرب (الأنباط) في الأردن ومملكة أبناء عمومتهم اليهود (يهودا) في فلسطين، فقد غذى الرومان الصراع الداخلي بين اليهود على منصبي المُلك والحاخامية الكبرى (منصب الكاهن الأكبر)، ودعموا كل جانب -سرًا- ضد الآخر، حتى حققوا مأربهم بتشكيل طبقة حاكمة موالية لهم، وغذوا كذلك التوتر بين دولتي يهودا والأنباط، ودفعوا كلا منهما لضرب وغزو أراضي الأخرى، حتى آنسوا ضعفًا من الأنباط فبدأ الجيش الروماني في حصار دولتهم حتى استسلمت وتحولت لولاية رومانية، وفرض الرومان وجودهم العسكري على اليهود من خلال حامية رومانية كانت حجة وجودها دعم الملك ضد المتدينين المتشددين الذين كانوا ساخطين على تدخل الرومان في شئون بلدهم، وعندما قامت ثورة اليهود الكبرى على الحكم الروماني، تم نفي أسرتهم الحاكمة وتحويل فلسطين لولاية رومانية بل وطرد اليهود منها تمامًا وتحريم دخولها عليهم. إذن فروما -كما بدا لنا- استطاعت ببراعة أن تغزو العالم من خلال التآمر ببراعة وحنكة على الأحوال الداخلية والخارجية للدول، محققة بذلك موقع الريادة والصدارة في العالم القديم فيما يخص مجال التآمر، وواضعة أسسًا له توارثتها الدول بعد ذلك حتى وصلت -تلك الأسس- لما هي عليه الآن من تداخلها مع السياسية ودهاليزها بشكل شديد التعقيد. والدليل أن نفس الأسلوب الروماني القديم ما زال يُمارَس حتى الآن من دول ضد الأخرى لتحقيق إجابة السؤال سالف الذكر عن كيفية تحقيق النصر دون تلويث الأيدي وإفساد المظهر الراقي الأنيق للدول الكبرى. دواء من السُم رغم ما يبدو في الحديث السالف عن التآمر من شر وتدمير للدول، إلا أن تطوره لم يخلُ من فوائد، تمامًا كما يُستَخرَج بعض الدواء من سُم الحية، فالحياة ومكوناتها تشبه إلى حد كبير ذلك الشعار الشهير لرياضة التايكوندو: دائرة نصفها أسود والنصف الآخر أبيض، وبالنصف الأسود بقعة بيضاء، وبذلك الأبيض بقعة سوداء. فرغم القدر الكبير من الخبائث البشرية المختفية خلف عملية التآمر -من كذب وخداع ودسائس وأطماع ووقيعة- إلا أنه كان ذا دور كبير في تطور الكثير من المكونات الحضارية والثقافية للحضارة البشرية الكبرى. فقد ساهم التآمر -كما قلتُ في الجزء السابق- في تعميق سُبُل معرفة الآخر والتعمق في مجتمعه وقراءة ما بين سطوره، حتى صار لذلك العمل خبراء بارعون متخصصون، تطورت خبراتهم وأساليبهم عبر التاريخ، لتقدم لنا في العصر الحالي تخصصًا هامًا هو "الدراسات الاستراتيجية". كما أن عملية جمع المعلومات من المتآمِر عن المتآمَر عليه وفهم طبيعة مجتمعه وخصائصه والصفات المميزة له ساهمت في نموّ العلوم المهتمة بالجماعات البشرية وثقافاتها كعلمي الاجتماع والأنثروبولوجي. صحيح أن قولي هذا قد يبدو مبالغًا فيه، ولكني أتحدث هنا عن الفضول البشري لمعرفة الآخر بغض النظر عما خلف ذلك الفضول من نوايا، وتوظيف تلك المعارف لصالح أغراض غير محبذة كالتآمر والاستعمار لا ينفي دور تلك الأغراض في تحفيز رغبة الإنسان في التعرف على كل ما يخص الآخرين من حوله. كما جعل تطور فن التآمر كل أطراف المؤامرات -متآمرين ومتآمَرا عليهم- يدركون أهمية المعرفة بالمكونات اللغوية والثقافية بل والعقائدية للآخرين، من منطلق أن من يعرف عن جاره يأمن شره، فكثر المترجمون والمثقفون في دهاليز دور الحكم المختلفة، وأصبحوا من المقدّمين على غيرهم في أوقات الحاجة إليهم لما لديهم من قدرة على التعامل مع ثقافة الطرف الآخر، وتنبيه الساسة والقادة العسكريين لما يفيدهم في تعاملهم معه ويساعدهم على تحقيق أكبر المكاسب خلال ذلك. وأكبر دليل على أهمية ذلك التطور هو أن كل أجهزة المخابرات الناجحة تحتوي على أقسام كاملة تهتم بالثقافات الحياتية والفكرية لأي مجتمع آخر، ولعل أكبر نموذج لذلك هو ما قامت به المخابرات الألمانية خلال الحقبة النازية من إنشاء إدارة متخصصة في جمع كل أنواع المعلومات -من أهمها لأكثرها تفاهة وسطحية- عن الدول المراد غزوها، لتوظيف تلك الحصيلة المعرفية الضخمة لصالح العمليات المخابراتية الألمانية. المال والسلاح ومن أهم تأثيرات تطور شكل وأسلوب المؤامرة على الحياة، هو ذلك التداخل الذي صار بين كل من رجال المال والساسة، فقد وجد الساسة التمويل والدعم من التجار ومؤسساتهم لإدراك هؤلاء الأخيرين حقيقة بسيطة تقول: "إن فرض سيطرة الدولة على مجتمع جديد تعني سوقًا جديدة للتاجر"، مما جعلهم يرون في التآمر لغزو أو استعمار بلد آخر "عملية تجارية" تستحق منهم دعم القادة، بل وتطور الأمر إلى أن أصبح هؤلاء التجار يسعون لتحريك الحروب السرية والعلنية لتحقيق مكاسب مادية لهم، مما حقق مزيدًا من الترابط بينهم وبين صناع القرار. تمامًا كما نسمع الآن عن أن بعض المؤسسات التجارية العابرة للقارات قد تسعى لإشعال حرب من أجل تحقيق أرباح لها.. الخلاصة خلاصة الأمر أن تطور شكل التآمر والمؤامرات وظهور أنماط ونماذج جديدة منها خلق للحروب شكلاً آخر كان نواة لما يسمى الآن "حرب المخابرات"، وخلق اهتمامًا أعمق من صناع المؤامرة بداخليات المجتمع موضوع المؤامرة، فلم تعد الحسابات تقتصر على النظرة السطحية للجيوش من حيث التسليح والكثرة العددية، بل بكل ما يمكن أن يؤثر -سلبًا وإيجابًا على سير الخطط ونتائجها.. وهو تطور يعكس مستوى أعلى من التفكير والتأمل بَلغته العقول البشرية. ولكن لتحقيق الأهداف المرجوة لم يكن يكفي التخطيط وتطوير أساليب التفكير والرؤى التآمرية، فقد كان لا بد من إيجاد عناصر مساعِدة يؤدي كل منها دوره بتناسق مع الآخرين لكي تأخذ المؤامرة شكلاً أكثر اكتمالاً وتنظيمًا ولترتفع احتمالات تحقق أهدافها وأهداف من دبروها.. عن ذلك نتحدث في الجزء القادم بإذن الله.. مصادر المعلومات 1- موسوعة مصر القديمة: سليم حسن. 2- محمد والذين معه: عبد الحميد جودة السحار. 3- جواسيس جدعون: جوردون توماس. 4- اليهود في فلسطين في العصرين البطلمي والسلوقي: د.هاني عبد العزيز جوهر. 5- الشرق الأدنى في العصرين الهللينيستي والروماني: د.أبو اليسر فرح. 6- مصر في عصر الرومان: د.الحسين أحمد عبد الله. 7- تاريخ الاستشراق وسياساته: زكاري لوكمان. 8- تاريخ العرب القديم: د.توفيق برّو. 9- لعبة المخابرات الأمريكية: عبد القادر شهيب. 10- الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق: محمد حسنين هيكل. 11- المُثُل السياسية: دليل بيرنز. 12- التحالف الأسود: ألكسندر كوكبرن - جيفري سانت كلير. 13- الأنباط، الولاية العربية الرومانية: جلين وارين بورسوك. 14- الماضي يُبعَث حيًا: إدنا مجوير. اقرأ أيضا: تاريخ شكل تاني.. المُؤامَرة! (1) تاريخ شكل تاني.. المُؤامَرة! (2)