ربما يبدو إصدار مجلة "تان تان" في السبعينيات حدثا تافها، بالنسبة للبعض، أو حدثا عاديا، بالنسبة للبعض الآخر، ولكنه كان بالنسبة لي حدثا مُدهشا، حلمت به طويلا، ولم أتصوّر تحوّله إلى حقيقة.. ومعرفتي، كمعظم أقراني، بشخصية "تان تان" نفسها قديمة جدا؛ لأن مجلة "سمير" كانت تنشر مغامراته، تحت اسم "تم تم"، وكنا نتابعها في طفولتنا بمنتهى الشغف، مع شخصيات أخرى، مثل الصحفي "عصام"، والطيار "نصر"، و"حور" الفارس الفرعوني، و"الشبح"، و"طرازان"، و"سوبرمان"، و"باتمان"، و"ميكي ماوس" بالطبع.. ثم ظهرت مجلة "تان تان" أوّلا باللغة الفرنسية، وكنت أسافر بالقطار -بالدرجة الثالثة بالطبع- من "طنطا" إلى "الإسكندرية"، فقط لكي أشتري نسختها الفرنسية من محطة الرمل، وألْتهمها في طريق عودتي إلى "طنطا".. كنت شديد الشغف برسومها، وألوانها، وطباعتها الأنيقة، وإن كانت معرفتي شديدة المحدودية باللغة الفرنسية، تمنعني من فهم سيناريوهاتها وقصصها، وكم حلمت بترجمتها إلى العربية، و... دخلت مؤسسة الأهرام عصرا جديدا مع الرئيس "السادات"، وطوّرت طباعتها ونشرها، ومنحتنا موسوعة المعرفة، التي ما زلت أحتفظ بها حتى يومنا هذا، ومجلة "تان تان" التي حلمت طويلا بترجمتها إلى العربية.. وبمنتهى اللهفة والشوق، وقفت أنتظر العدد الأوّل من مجلة "تان تان"، واختطفتها اختطافا فور وصولها، وقبل أن أصل إلى منزلي، كنت قد التهمتها التهاما، وذبت عشقا في هواها.. "تان تان" كانت تختلف تماماً.. لم تكن "تان تان" مجلة هزلية كل المجلات المصوّرة التي عرفتها منذ طفولتي، كانت إما هزلية، أو مطبوعة خصيصا للأطفال.. ولكن "تان تان" كانت تختلف.. تماما.. لم تكن "تان تان" مجلة هزلية، أو حتى مجلة للأطفال، ولأوّل مرة في حياتي ألتقى بمجلة مصوّرة تخاطب الشباب.. ولأوّل مرة في حياتي، أدركت أن القصة المصوّرة أعظم مما نستوعب بكثير، لو أنك تعاملت معها بالاحترام الكافي.. لقد وجدت في "تان تان" قصصا جادة، وسيناريوهات قوية، تصلح لأفلام سينمائية من الطراز الأول، يرسمها فنانون يعشقون فنّ القصة المصوّرة، ويتبارون في جعلها في أفضل صورة، من حيث الفنّ، والإخراج، والتكوين، والألوان.. باختصار، كانت تحفة فنية، بكلّ المقاييس.. أيامها، وكما يحدث حتى يومنا هذا، كان الشباب يسخرون ممن يقرأ القصص المصوّرة، وكنت أنا، كما لم أعد الآن، أخشى سخريتهم، وأخفي عنهم اهتمامي بجمع أعداد مجلة "تان تان"، بمنتهى الحب والشغف.. والمدهش أنه، على الرغم من كثرة وغزارة قراءاتي، منذ كنت في المرحلة الابتدائية، فقد كانت "تان تان" هي أكثر ما ساهم في تشكيل فكري، خاصة وأنني، كما قد لا يعلم الكثيرون، رسّام إلى حد ما، ولم تكن شهرتي في أيام الكلية ترجع إلى ما أكتبه، بقدر ما كانت ترجع إلى ما أرسمه، من كاريكاتيرات، كانت تجذب مجتمع الكلية كله تقريبا، ولأنني أعشق الأمرين معا، الرسم والكتابة، فقد وقعت في غرام مجلة "تان تان"، وسيناريوهاتها الرائعة، ورسومها الجميلة المدهشة، والفكر الثقافي العالي في قصصها وحواراتها.. كانت مجلة "تان تان" ملهمتي وفي تلك المرحلة انتقلت إلى القصة المصوّرة.. جمعت بين هوايتين، ورحت أرسم قصصا مصوّرة، ما زلت أحتفظ بها حتى يومنا هذا.. لم تكن قصصي ورسومي ترقى إلى مستوى مجلة "تان تان" بالطبع، ولكن تلك الأخيرة كانت ملهمتي، التي لم أعد أستطيع الاستغناء عنها أبدا.. ثم انتقلت إلى مرحلة أخرى جديدة.. مرحلة إرسال رسومي إلى مجلة "تان تان" نفسها.. كانت المجلة قد بدأت في باب جديد، ينشر مواهب وهوايات القراء، وتشرف عليه الأستاذة "عصمت محمد أحمد"، التي كان لها فضل كبير في رفع معنوياتي، عندما نشرت كل ما أرسلته إليها من رسوم وقصص مصوّرة، وقصص قصيرة، باستثناء عمل واحد، رأت أنه لا يناسب سياسة المجلة.. ولعله كان كذلك بالفعل.. لقد كان قصة قصيرة عن شاب عشق فتاة على الشاطئ، تسير طوال الوقت بشعرها الطويل، وقميصها الهفهاف، وسروالها الواسع، وعندما طال عشقه لها، وواجهها به، فوجئ بأنها ليست فتاة.. إنها فتى.. فأيامها كانت ثياب الجنسين متشابهة، وكان الشبان يطيلون شعورهم أكثر من اللازم، وبعضهم يبدو أكثر نعومة من الشابات.. وربما هذا ما أوحى لي بتلك الصورة الساخرة.. ولكن الأستاذة رأت أنها قصة أجرأ من اللازم، ولا تناسب المجلة.. ولقد أرسلت بعدها أعمالا أخرى للأستاذة "عصمت"، وحظيت كلها بالنشر.. طلبت زيارة مبنى الأهرام ورؤية كيف تُطبع "تان تان" ولأنني لا أشبع أبدا فقد أرسلت إليها رسالة، أطلب منها فيها زيارة مبنى الأهرام، ورؤية كيف تُطبع "تان تان".. ولا يمكنكم أن تتصوّروا مدى سعادتي عندما اشتريت العدد التالي، ووجدت فيه ردا، يطلب مني الاتصال بالعلاقات العامة بالأهرام، لتحديد موعد للزيارة.. ولما لم أجد وسيلة للاتصال بالعلاقات العامة، فقد استقللت أوّل قطار في الصباح إلى "القاهرة"، حاملا ذلك العدد، وتوجّهت مباشرة إلى مبنى الأهرام، في شارع الجلاء، وطلبت مقابلة أي مسئول في العلاقات العامة هناك.. لم يكن هناك بالطبع أي تنسيق، باعتبار أنني قد وصلت دون موعد سابق، ولم يكن لدى مسئول العلاقات العامة أية فكرة عن الأمر، ولكن المدهش أنه ما إن قرأ المنشور في المجلة، حتى اصطحبني بالفعل في جولة منفردة، داخل مبنى الأهرام ومطابعه.. كم كان زمنا جميلا، بلا تعقيدات أو صعوبات.. مسئول العلاقات العامة سألني عما إذا كنت ضمن مجموعة، أو أحمل خطابا من جهة ما، ولم أكن هذا أو ذاك.. فقط كنت قارئا، طلب الزيارة، وفاز بردّ منشور.. ولكن الرجل ترك مكتبه واصطحبني بمنتهى الاهتمام، وقضيت معه ثلاث ساعات كاملة، رأيت خلالها مبنى الأهرام ومطابعه، كما لو كنت أحد كبار الزوّار.. كنت مبهورا ومأخوذا، على الرغم من أن "تان تان" لم تكن تُطبع هناك، وإنما في المطابع التجارية، ولكنني تلقّيت أوّل دروس الصحافة والطباعة.. وفي نهاية الجولة، طلبت مقابلة الأستاذة "عصمت".. وقد كان.. كنت مبهوراً بالأهرام.. وبالأستاذة "عصمت".. وبالصحافة.. والطباعة.. والنشر لا يمكنكم تصوّر مدى انبهاري، عندما التقيت بها في مكتبها، وعندما وجدت أنها تعرفني، وأنها تتوّقع لي مستقبلا في عالم الكتابة والرسم.. وعندما غادرت مبنى الأهرام في منتصف النهار، كنت أحمل في أعماقي حلما جديدا، يضاف إلى كل أحلامي السابقة.. حلم الصحافة.. كنت مبهورا بالأهرام.. وبالأستاذة "عصمت".. وبالصحافة.. والطباعة.. والنشر.. كنا أيامها في فترة الصيف، بين العامين الثاني والثالث الثانوي، وكنت، ولأوّل مرة في حياتي، قد حصلت على ترتيب متقدّم في نهاية العام، بسبب مسألة فيزيائية، عجز معظم الطلاب عن حلها، واستخدمت أنا فيها قوانين الرياضة وليس قوانين الفيزياء، ونجحت في حلها "بالمصادفة".. وارتفعت ثقتي بنفسي كثيرا في تلك الفترة، ودون غرور هذه المرة، ورحت أمارس بعض الرياضات، التي زادت من ثقتي بنفسي، حتى انتهى الصيف، وبدأ معه العام الدراسي الجديد.. العام الذي حمل مفاجأة كبرى.. ليس لي.. ولكن ل"مصر" كلها.. مفاجأة الحرب.. حرب أكتوبر 1973 م.. tintin * خمسة جد اضغط على الصورة لمشاهدة الجاليري: