الحرية.. تلك هي الغاية.. وتلك هي المشكلة؛ ففي الوقت الذي تتعالى فيه الأصوات بنداء الحرية ومطالب الحرية، تجد أن معنى ما يطلبونه غائب عن كثير من الأذهان.. فهيا بنا معا نتحرك في زيارة لبعض ميادين الحرية على الطريقة المصرية.. خد عندك مثلا، شاب يشرب البانجو في أحد الأحياء الشعبية، ويقف على قارعة الطريق يعاكس بنات الناس، فإذا ذهبت لتقول له: يا أخي إذا بليتم فاستتروا، فاجأك بقوله: وانت مالك يا أخي.. أنا حرّ! فتاة تخرج من بيتها ترتدي ملابس مثيرة للغرائز، وتضع الماكياج، وتمشي وكأنها تتحرك على موسيقى ألف ليلة وليلة، فتتعرض للغمز واللمز، ومعاكسة الشباب التائه في طرقات مصر وحواري اليأس من بناء بيت الزوجية، وإذا همست في أذنها: يا ابنتي لِمَ كلّ هذا التبرج وهذا الاستهتار بنظرة الناس لك؟ واجهتك بقولها: وانت مالك.. أنا حرّة!! طالب في المرحلة الثانوية يقف على باب مدرسة البنات، تاركا دراسته، وهاربا مع صديقة له في المدرسة الثانوية بنات.. متوّجها بها إلى حديقة قلعة صلاح الدين الأيوبي محرّر القدس من أيدي الصليبيين، فإذا جئت له وسألته: بالذمة ده كلام؟!، تطلّع إليك ونظر نظرة الذي سيحرّر مصر من أفكارك التقليدية البالية.. صارخا: وانت إيش حشرك يا حشري.. أنت هتربيني؟ يا أخي.. أنا حر! طب سيبك من كل الحريات دي، وخلينا في المسئولين: وزير يقف أمام مجلس الشعب الموقّر، وتحت القبة الموقّرة، والجلسة مُذاعة على التليفزيون المصري الموقّر -شوف كلامي كله توقير إزاي- ثم يفاجأ وهو يتحدث عن أزمة عقارات عزبة الهجانة، بقوله إن الملاك الأصليين بنوا العقارات بالمخالفة للقانون، والمنطق يقتضي تعويض المتضررين الذين اشتروا الوحدات، ثم القبض على المالك، ولازم بعد تعويض الناس أجيب المالك الأصلي وأطلّع (...) اللي خلفوه"، وهناك من وضع مكان النقط كلمة "عين"، وهناك من وضع كلمة "دين".. عموما الدين لله والقبة للجميع.. والشعب المصري عمره ما ظن ولو للحظة أن تحت القبة شيخ.. وفي كل الأحوال فإن السيد الوزير قال تعقيبا على سؤال: هل قلت؟ فقال: أنا حر، أقول اللي أنا عاوزه، ما دام المواطن لا يحترم القانون! بلاش دي، وبلاش الشتائم وسبّ الأب والأم، ورفع الجزم في مجلس الشعب بين السادة النواب اللي هم أحرار، يعملوا اللي هم عاوزينه ما داموا يمثّلون الشعب ويتمتّعون بالحصانة.. خلينا في الإعلاميين اللي مقضّيين برامجهم سب وقذف وخوض في أعراض الناس، وإيش مسئول من هنا على معارض من هنا.. ده يشكّك في شرف ده، وده يؤكد إن ده على علاقة مشينة بفتاة ليل، شتائم واتهامات تعجّ بها الفضائيات، وكله محمول على كتف "حرية الإعلام"!! بلاها تليفزيون وخليك في الصحافة، وفي دي بقى مش هاقول لك.. إنت سيد العارفين، يعني السبّ والقذف والتشهير.. ومين اللي اتجوّز، ومين اللي طلّق، ومين اللي بيعرف في الحرام، ومين اللي سرق ونهب وتواطأ، ومين اللي باع شرفه وهانت عليه كرامته، ومين اللي مصّ دم الغلابة.... وده وطني يبقى فيه كل العبر في الصحف المستقلّة -واخد بالك من الاستقلال ده- ومين معارض يبقى شرفه وسمعته وأسرته وذمته المالية وصور عياله على الشواطئ تبقى مالية الجرايد بحق أو بباطل.. فإذا حاسبت صحفيا بتهمة السبّ والقذف أو التشهير طلعت عليك الأقلام المسنونة كالسكين، بأنك متواطئ مع الدولة، وتريد وأد حرية الصحافة.. بلاش.. خلينا في مناقشتنا إحنا مع بعض.. وخلي واحد كده يقول رأي على مقال، وهذا الرأي يبدو شاذا أو مخالفا، فإذا بك تجد بعض الرسائل تكيل له السباب والشتائم، فإذا ترفّع الموقع عن النشر؛ لأنه لا يجوز لنا أن نساعد على شتيمة الناس اتّهمك صاحب المشاركة بأنك تجور على حرية رأيه!! بقى بالذمة دي حرية.. هي دي الحرية اللي بنطالب بيها؟ وهل لو حصلنا عليها دون قيد أو شرط أو رادع هنلاقي مصر بتتقدم بينا؟ أعتقد أننا في حاجة لمراجعة معنى الحرية في قاموس حياتنا، وأن على المرء أن يتعلم كيف يكون حرا في بيته، وحرا في عمله، وحرا في شارعه، وحرا في اختياراته وتنفيذها، فأن تكون حرا تعني أن تكون مسئولا، ولأن أكثر الناس يتهرّبون من المسئولية، فإنهم يتهرّبون من المعنى الحقيقي للحرية.. أما الحرية اللي في حياتنا وفي شوارعنا وفي إعلامنا وفي تعاملاتنا، الحرية اللي بيطالبوا بيها دي، واللي بيشد في جلابيتها وفي شَعرها كل من هبّ ودبّ لحدّ ما مرمطوها وقطّعوا هدومها ومسحوا بيها البلاط؛ فهي الفوضى بعينها، أو لنقل إنها حرية قطّاع الطرق وأولاد الشوارع.