إذا كان المثل يقول: "رب أخ لك لم تلده أمك"، فأنا أقول "رب أب لي لم تتزوجه أمي".. لينطبق هذا القول "المأثور" على أبي العزيز أمل دنقل.. الرجل الذي رباني.. من أمل دنقل تعلمت المقاومة ووعيت على الصلابة، فقد كان الرجل مقاوماً حتى النخاع.. هكذا عاش، وفيه لمست هذه الصلابة.. صلابة يشي بها وجهه الأسمر وعوده المشتد، وصوته القوي.. وهكذا كان شعره.. صلباً كشخصه..
لا تصالح ولو منحوك الذهب.. إنها الحربُ! قد تثقل القلبَ.. لكن خلفك عار العرب لا تصالحْ.. ولا تتوخَّ الهرب!
البكاء بين يدي زرقاء اليمامة.. قيل لي اخرس فخرست وعميت وائتممت بالخصيان ظللت في عبيد عبس أحرس القطعان أجتزّ صوفها أردّ نوقها أنام في حظائر النسيان طعامي الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة وها أنا في ساعة الطعان ساعة أن تخاذل الكماة والرماة والفرسان دعيت للميدان أنا الذي ما ذقت لحم الضان أنا الذي لا حول لي أو شان أنا الذي أُقصيت عن مجالس الفتيان أدعى إلى الموت ولم أدعَ الى المجالسة
كلمات سبارتكوس الأخيرة.. معلّق أنا على مشانق الصباح وجبهتي بالموت محنيّة لأنّني لم أحنها.. حيّة!
مقابلة خاصة مع ابن نوح كان قلبي الذي نَسجتْه الجروحْ كان قَلبي الذي لَعنتْه الشُروحْ يرقدُ الآن فوقَ بقايا المدينة وردةً من عَطنْ هادئاً.. بعد أن قالَ "لا" للسفينة وأَحَب الوطن!
هذا هو الشاعر.. وهذا هو الموقف.. أمل دنقل لم يقف بين بين.. بل كان صامداً.. في زمن سقط فيه الصامدون في بئر ذهب الأمراء كان قوله فصلاً في زمن علت فيه ثرثرة الشعراء.. كان خطابه خاصاً ومختلفا بكل ما تحمل الكلمة من معنى.. * كانت كلماته مختلفة.. عِندما تهبطينَ على سَاحةِ القَومِ, لا تَبْدئي بالسَّلامْ فهمُ الآن يقتَسِمون صغارَك فوقَ صِحَافِ الطعام بعد أن أشعَلوا النارَ في العشِّ.. والقشِّ.. والسُّنبلة.! وغداً يذبحونكِ.. بحثاً عن الكَنزِ في الحوصلة! وغداً تَغْتَدي مُدُنُ الألفِ عامْ.! مدناً.. للخِيام! مدناً ترتقي دَرَجَ المقصلة! * زاوية نظره مختلفة.. في غُرَفِ العمليات, كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ, لونُ المعاطفِ أبيض, تاجُ الحكيماتِ أبيضَ, أرديةُ الراهبات, الملاءاتُ, لونُ الأسرّةِ, أربطةُ الشاشِ والقُطْن, قرصُ المنوِّمِ, أُنبوبةُ المَصْلِ, كوبُ اللَّبن, كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبي الوَهَنْ كلُّ هذا البياضِ يذكِّرني بالكَفَنْ! فلماذا إذا متُّ.. يأتي المُعَزّونَ مُتَّشِحينَ.. بشاراتِ لونِ الحِدادْ? هل لأنَّ السوادْ.. هو لونُ النجاة من الموتِ, لونُ التميمةِ ضدّ.. الزمنْ *رؤيته للواقع مختلفة جاء طوفان نوح ها همُ "الحكماءُ" يفرّونَ نحوَ السَّفينة المغنونَ - سائس خيل الأمير – المرابونَ - قاضي القضاةِ (ومملوكُهُ!) - حاملُ السيفُ - راقصةُ المعبدِ (ابتهجَت عندما انتشلتْ شعرَها المُسْتعارْ) - جباةُ الضرائبِ - مستوردو شَحناتِ السّلاحِ - عشيقُ الأميرةِ في سمْتِه الأنثوي الصَّبوحْ! ولهذا فقد كان شيئاً مختلفاً كل هذا كان أمل دنقل.. في ثلاث وأربعين سنة فقط صنع ما صنع.. ولهذا فما أحلى أن نذكره.. فذكْرُه قوة.. ومقاومة.. وذكريات أب جميل.. تحيّة إلى أمل في ذكرى وفاته أباً ومقاوماً وأملاً..