أقمت في اسكتلندا لمدة ثلاثة أسابيع في قلعة تاريخية يعود تاريخ إنشائها إلى القرن السادس عشر الميلادي في منحة تفرّغ للكتابة. وكان معي أربعة كتّاب من ضمنهم شاعر أمريكي من "الآميش"، و"الآميش" لمن لا يعرفونهم هم طائفة دينية مسيحية تأسست في القرن السادس عشر في أوروبا، ظهرت أول ما ظهرت في سويسرا الألمانية وألمانيا، وانتقل بعضهم إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، ويبلغ تعدادهم اليوم في أمريكا قرابة ربع المليون نسمة، يعيشون في مجتمعات مغلقة خاصة بهم وهناك في الولاياتالمتحدة قرابة الثلاثة آلاف جماعة من "الآميش". كان لقائي الأول مع الكتّاب أثناء اجتماع العشاء في الليلة الأولى، كنت أوّل مَن وصل إلى غرفة الانتظار الملحقة بغرفة الطعام، الغرفة تطلّ على منظر خلّاب لغابات تمتد إلى ما لا نهاية، وتحت النافذة يمرّ مجرى مائي سريع التدفق يحدث خريراً يبعث في النفس حالة من الهدوء. وكان هو ثاني الحضور؛ كان شاباً في الثلاثين من العمر يطلق لحيته ويحف شاربه، سمح الملامح، طويلاً ورفيعاً، يرتدي بنطالاً واسعاً جدًّا لونه رمادي كالح مثبّتاً بحمالات، وقميصاً واسعاً دون أزرار لونه بين الأبيض والرمادي. استغربت لأول وهلة، ولكن لأنني شاهدت فيلماً أمريكياً يتحدّث عن "الآميش" أدركت أنه منهم، تعارفنا وتحدّثنا وكان أقل الشعراء الذين عرفتهم عبر حياتي حديثاً، كان هادئ الطبع وعذب الكلام وشديد الاحترام، بعد أسبوعين تجرّأت وسألته عن هذه الطائفة التي يتبعها، وعرفت أنه اختار الانضمام إليهم وهو يقترب من سن العشرين. وبدأ يجيب عن أسئلتي بقدر من الاقتضاب. كان ما لفت انتباهي في الفيلم الأمريكي أن "الآميش" يركبون عربات تجرّها الأحصنة، ولا يمكنهم امتطاء عربات بموتور، فكيف إذن ركب طائرة بمواتير عبر بها الأطلنطي حتى وصل إلى اسكتلندا؟ أجاب أن كل جماعة تحدد مجموعة القوانين التي تتبعها بناءً على إرادتهم المشتركة، ولكن هناك ولا شك خطوط عامة تجمعهم، ففيما يخص السيارات فالجميع يتفق على عدم امتلاكها، ولكن جماعات تبيح استخدامها وأخرى لا تبيح. أما بالنسبة إلى جماعته فيمكنهم استخدام ما يتحرّك بموتور. "الآميش" لا يتعاملون مع عالم الصورة؛ فالتليفزيون حرام والسينما حرام، أما فيما يتعلّق بالصور الفوتوغرافية فيمكنه مشاهدتها على شرط ألا تكون هذه الصور لكائنات حية باستثناء عالم النبات. قال لي إنه قبل انضمامه "للآميش" كان يعشق مشاهدة الأفلام السينمائية، وأنه يظن أن أقسى القوانين عليه وطأة هي الخاصة بعدم مشاهدة الأفلام، ولكنه يتفهم ذلك تماماً. كما لا يمكنهم امتلاك تليفون -بغضّ النظر عن نوعه- محمول أو أرضي، ولا يمكنهم أن يعيشوا في منزل به تليفون، ولكن يمكنهم استعمال الهاتف العمومي. فالإنسان يمكن لو كان الهاتف في يده أن يتقول بكلام عصبي، أو أن يقتل بعض الوقت في حديث بلا فائدة، ولكن عندما يأخذ الإنسان الزمن الكافي للنزول من منزله والذهاب إلى حيث الهاتف العمومي، فهو في هذه الحالة سوف يتفكر ويتروّى فيما سوف يقوله، ولن يمضغ الزمن في كلام بلا معنى. الملابس يجب أن تكون فضفاضة لا تظهر معالم الجسد، ويجب أن تكون ألوانها باهتة لا تجذب البصر ولا تلفت الانتباه. بعضهم يمنع منعاً قطعياً استعمال الأزرار في الملابس. الأهم من كل ذلك أنه ممنوع عليهم تماماً التعامل مع عالم السياسة، أو حتى التعامل مع أجهزة الدولة، فهذا حرام صريح؛ فالمشاركة في الانتخابات حرام، اللجوء إلى القضاء حرام، الترشّح لأي منصب سياسي أو له علاقة بالدولة حرام.
لو تعرّض أحدهم للسرقة لا يستطيع أن يُقدّم شكوى للشرطة، ولكنه يذهب للمسئول عن إدارة الجماعة للبحث في الأمر. فهم يعيشون لذلك في حالة عزلة كاملة عن المجتمع الأمريكي. أهم ما يُميّز فكرهم هو "الخضوع" الكامل للإرادة الإلهية و"الخشوع" أمام الله بما يكبح النفس ويُقوّمها ضد الغرور والشعور بالذات. اللافت للانتباه أنه خلال هذه الفترة لم يُكفّرني أو يُكفّر من معنا من كتّاب، ولم يحاول أن يقنعني بما يؤمن ولم يدّعِ أنه يعرف ما أنوي وما أقصد وما في قلبي من هواجس وشكوك وإيمان. لم يتّهم أي نظام بالكفر، لم يصرخ في وجهي بعذاب القبر. ولم يعلن أنه الوحيد الذي يمتلك الحقيقة. لم يقُل إن "الآميش" هو الحل. فهم للغرابة يؤمنون بحق الاختلاف، كنا نقرأ لشاعر هندوسي، وبعدها لشاعر بوذي وكان يُكنّ لهما ولدينيهما كلّ تبجيل. التطرّف الديني موجود في كل أنحاء العالم ومقيم في أرواح الكثير من البشر، ولكنه في مصر يزعق نهاراً وليلاً بتخطيط أمريكي وتمويل خليجي، وتواطؤ من الحكومة المصرية لأهداف سياسية قصيرة النظر. ماذا لو أدرك هؤلاء كما يُدرك "الآميش" أنهم ليسوا بالضرورة يمتلكون المعرفة الوحيدة الحقة. عن جريدة الشروق 28 مارس 2010