الجرام يسجل أقل من 3900 جنيها.. أسعار الذهب والسبائك اليوم بالصاغة بعد الانخفاض الجديد    بعد إعلان المجاعة.. الهلال الأحمر الفلسطيني: لم نعد نتوقع شيئا من المجتمع الدولي    كأس السوبر السعودي.. هونج كونج ترغب في استضافة النسخة المقبلة    استخراج القيد العائلي 2025 أون لاين.. الخطوات والشروط والأوراق المطلوبة    محمد النمكي: الطرق والغاز جعلت العبور مدينة صناعية جاذبة للاستثمار| فيديو    أهداف إنشاء صندوق دعم العمالة غير المنتظمة بقانون العمل الجديد    عصابات الإتجار بالبشر| كشافون لاستدراج الضحايا واحتجازهم بشقق سكنية    بورسعيد.. أجمل شاطئ وأرخص مصيف| كيف كانت الحياة في المدينة الباسلة عام 1960؟    «مياه الأقصر» تسيطر على بقعة زيت فى مياه النيل دون تأثر المواطنين أو إنقطاع الخدمة    شريف حافظ: الحب هو المعنى في حد ذاته ولا يقبل التفسير... والنجاح مسؤولية يجب أن أكون مستعدًا لها    نوال الزغبي: ضحيت بالفن من أجل حماية أولادي بعد الطلاق    تنسيق دبلوم التجارة 2025.. قائمة الكليات والمعاهد المتاحة لطلاب 3 سنوات «رابط وموعد التسجيل»    عميد تجارة القاهرة الأسبق: الجامعات الحكومية ما زالت الأفضل.. وهذه أسباب تفضيل البعض للخاصة    «الشمس هتغيب قبل المغرب».. كسوف الشمس الكلي يظهر في سماء 9 دول بهذا التوقيت    سعر السمك البلطي والكابوريا والجمبري في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    أبطال فيلم "وتر واحد" يشاركون ويجز تألقه على مسرح العلمين    سهير جودة عن شيرين عبدالوهاب وحسام حبيب: «انفصال وعودة مزمنة.. متى تعود إلينا؟»    فيفي عبده تعلن وفاة الراقصة المعتزلة سهير مجدي    «الأستانلس أم التيفال»: هل نوع حلة الطبخ يغير طعم أكلك؟    طريقة عمل الملبن الأحمر في المنزل ل المولد النبوي (خطوة بخطوة)    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه بحماس    أطعمة تسبب الصداع النصفي لدى النساء ونصائح للسيطرة عليه    التعليم تطلق دورات تدريبية لمعلمي الابتدائي على المناهج المطورة عبر منصة (CPD)    الإنتاج الحربي يستهل مشواره بالفوز على راية الرياضي في دوري المحترفين    نشرة التوك شو| موجة حارة جديدة.. وشعبة السيارات تكشف سبب انخفاض الأسعار    رسميا.. جامعة الأزهر 2025 تفتتح أول كلية للبنات في مطروح وتعلن عن تخصصات جديدة    طارق فهمي: الإعلان الأممي عن تفشي المجاعة في غزة يعكس حجم الكارثة الإنسانية    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه    مدحت صالح يتألق بغناء حبيبى يا عاشق وزى المليونيرات بحفله فى مهرجان القلعة    بوتين: واثق أن خبرة ترامب ستسهم في استعادة العلاقات الثنائية بين بلدينا    وزير الخارجية الأردني: على إسرائيل رفع حصارها عن قطاع غزة والسماح بإيصال المساعدات    رسميا.. مدرسة صناعة الطائرات تعلن قوائم القبول للعام الدراسي الجديد 2025/ 2026    في ظهوره الأول مع تشيلسي، إستيفاو ويليان يدخل التاريخ في الدوري الإنجليزي (فيديو)    اليوم، دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ربيع الأول لعام 1447 هجريا    تشيلسي يقسو على وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي (فيديو)    رياضة ½ الليل| إيقاف تدريبات الزمالك.. كشف منشطات بالدوري.. تعديلات بالمباريات.. وتألق الفراعنة بالإمارات    مصدر ليلا كورة: كهربا وقع عقدا مع القادسية الكويتي    غزل المحلة يبدأ استعداداته لمواجهة الأهلي في الدوري.. صور    أول تعليق من النني بعد فوز الجزيرة على الشارقة بالدوري الإماراتي    استقالة وزير الخارجية الهولندي بسبب موقف بلاده من إسرائيل    مراسل من دير البلح: المنطقة باتت مستباحة بالكامل تحت نيران الاحتلال    3 أبراج على موعد مع التفاؤل اليوم: عالم جديد يفتح الباب أمامهم ويتلقون أخبارا مشجعة    إسرائيل تشن هجومًا على مخازن تابعة لحزب الله في لبنان    وزير الري يشارك في جلسة "القدرة على الصمود في مواجهة التغير المناخي بقطاع المياه"    ارتفاع الكندوز 39 جنيها، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    المنوفية تقدم أكثر من 2.6 مليون خدمة طبية ضمن حملة 100 يوم صحة    صحة المنوفية تواصل حملاتها بسرس الليان لضمان خدمات طبية آمنة وذات جودة    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 23 أغسطس 2025    قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا    مقتل عنصر من الأمن السورى فى هجوم انتحارى نفذه "داعش" بدير الزور    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    ثورة جديدة بتطوير المناهج «2»    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الديوان الإسبرطي" تستذكر الاحتلالين العثماني والفرنسي
نشر في صوت البلد يوم 14 - 03 - 2020

تعتمد الرواية التاريخية، في الأعمّ الأغلب، على السرد المتسلسل، لكنّ رواية "الديوان الإسبرطي"، من روايات "القائمة القصيرة" لجوائز "البوكر" العربية والصادرة عن "دار ميم للنشر" في الجزائر، للروائي عبد الوهاب عيساوي، تُراهن على السرد المتناوب الذي تقوم به خمس شخصيات رئيسة، وهي: "ديبون، وكافيار، وابن ميار، وحمّة السلاّوي، ودُوجة". كما تنطوي الرواية على أكثر من 30 شخصية ثانوية، تؤدي أدوارها المؤازرة للشخصيات المحورية، وتؤثث الفراغات التي قد تُترَك بين تضاعيف المتن السردي.
وتغطي الرواية الحقبة الزمنية المحصورة بين عامي 1815 و1833. أما المكان فيمتد من الجزائر إلى باريس، وبعض المدن والموانئ الفرنسية، وينتهي بإستانبول، عاصمة الدولة العثمانية آنذاك. وتأخذ الرواية طابع اليوميات، أو المذكّرات الشخصية، ولو شئنا الدقة لقلنا "الاستذكارات". فالرواة الخمسة يستذكرون ما مرّ بهم من أحداث قد تبدو ضئيلة، لكنها في واقع الحال تنطوي على كثير من التفاصيل الدقيقة التي ترصد طبيعة الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية، من دون أن تهمل الجوانب السياسية في المثلث التركي - الجزائري – الفرنسي. ولعل أهمّ ما في هذه التفاصيل دراسة الطبائع الاجتماعية للإنسان التركي والفرنسي والجزائري، عبر ثنائية القوة والضعف، التحرّر والاستعباد، الأوهام والحقائق الدامغة. وثمة تفاصيل أخرى ترصد طبيعة الإنسان الجزائري، أو المغاربي العربي بشكل عام، من خلال عقليته الشفاهية التي لا تُحبّ التدوين، على غرار الإنسان الأوروبي، أو التركي بدرجة أقل، هي التي منحت النص السردي بُعداً معرفياً شديد الإغراء، ساهم إلى حدٍ كبير في تسريع الإيقاع السردي المتباطئ، وانتشال الرواية من سكونيتها أو حركتها الدائرية التي تتكرر خمس مرات في القسم الواحد من أقسام الرواية الخمس.
وتحتاج هذه الرواية إلى صبر طويل لمواصلة قراءتها من قبل كثير من القرّاء الذين يبحثون عن أحداث متسارعة لا توفّرها رواية "الديوان الإسبرطي" التي تلتف حول نفسها بحلقة دائرية، قبل أن تندفع للأمام، لتعاود الكَرّة من جديد، ملبّية طلب الأصوات المتعددة التي تروي استذكاراتها بطريقة دائرية لا يشعر القارئ باندفاعها إلا لمامًا.
واختار عبد الوهاب عيساوي شخصيتين فرنسيتين، أولهما ديبون، مراسل الحملة عام 1830، وهو شخص مناصر للقضية الجزائرية، لا يجد حرجاً في تعرية الممارسات القمعية للاستعمار الفرنسي، وينشر مقالاته في صحيفة "لوسيمافور دو مرساي". ولعل أبرز ما جاء في يومياته حديثه عن بورمون الذي اختاره الملك لقيادة الحملة الفرنسية، رغم أنّ كثيرين يؤاخذونه على خيانته القديمة في واترلو، ولن تشفع له كل المعارك التي خاضها، والتضحية بولديه اللذين قُتلا في الجزائر. وعندما سقط الملك في باريس، لم يجد بورمون أمامه سوى المنفى الإنجليزي، حيث ينتظره الملك المعزول. أما الشخصية الفرنسية الثانية، فهي كافيار الذي كان وزيراً في حملة نابليون، وأسيرًا سابقًا لدى الأتراك. فلا غرابة أن يحقد على الأتراك والجزائريين معًا. وثمة وصف دقيق لطرق التعذيب التي تعرّض لها بشكل فردي وجماعي، سواء في حمل الصخور الثقيلة لمسافات طويلة وتفريغ قفاف الملح من السفينة إلى صناديق مهيأة على رصيف الميناء والنوم الجماعي لكل ثلاثين شخصًا في غرفة صغيرة لا تتجاوز مساحتها تسعة أمتار مربعة. وتختصر هذه الشخصية الفرنسية أشياء كثيرة في الرواية، مثل الحديث عن القيود التي وضعت على يهود الجزائر، أو وصف المعالم الخارجية للقبائل، أو الحديث عن بوتان، الجاسوس الذي أرسله نابليون لكي يكتب تقاريره السرية عن الجزائر، ويرسم خرائطها التي تُعينه في أثناء الحملة العسكرية. باختصار شديد، هذا الرجل الذي دخل الجزائر مغلولاً، وعاد إليها من جديد لكي يضع القيود في أرجل الأتراك والمُور معًا. وفي مقابل الشخصيتين الفرنسيتين، يقدِّم لنا عبد الوهاب عيساوي ثلاث شخصيات جزائرية، وهي: ابن ميار، وحمّة السّلاوي، ودُوجة بائعة الهوى التي ستتوب وتكرّس حياتها للسّلاوي. يحتل ابن ميار مناصب متعددة، لكننا سنكتفي بمنصب كاتب الديوان الذي يدوِّن فيه شكاوى المواطنين، ويرفعها إلى المسؤولين الجزائريين والفرنسيين، لكنه يؤكد بين آونة وأخرى أنّ الجزائر لن تكون إلا لأهلها. ومن بين الأشياء الكثيرة التي يرويها قصة نهب المساجد وتدميرها، مثل مسجد "السيدة" الذي سوّوه بالأرض، وجامع كتشاوة الذي حوّلوه إلى كنيسة. وحينما تصل شكايته الأولى إلى الملك، تأتي اللجنة، لكنه لم يجنِ منها سوى النفي والترحيل إلى إستانبول، هو وزوجته لالّة سعدية، تاركين دُوجة عند لالّة زهرة التي تنتظر عودة حمّة السّلاّوي على أحرّ من الجمر. ويمكن وصف الشخصية الرابعة حمّة السّلاّوي بأنه جزائري عربي مُحب لوطنه، كاره للخونة والمتآمرين، وسوف يقتل المِزوار لأنه اغتصب دُوجة، واعتدى على كثير من فتيات "المحروسة"، الاسم الآخر للجزائر. وبسبب هذه "الجريمة"، يجد السّلاوي نفسه مضطراً للاختباء، بعد أن أصيب بطلق ناري في ساقه، وهو يفكر جدياً بمغادرة "المحروسة"، رفقة دُوجة، والالتحاق بجيش الأمير عبد القادر.
وتروي دُوجة، وهي الشخصية الخامسة، قصتها أيضًا، فنُفجَع بموت والديها وشقيقها الأوحد منصور، ثم يدفعها الفقر المُدقع لتجد نفسها في حي البغاء. وبما أنها جميلة، فإنها تقع تحت رحمة الأعين المتربصة بها، فتنتقل من بيت تاجر لآخر، لكنها تصبح في خاتمة المطاف مطربة في فرقة لالّة مريم التي تكلّفها بإحياء حفلة خاصة لأحد السادة الأتراك، وتنجح في مهمتها لأن خامة صوتها جميلة، لكن المِزوار كان يتربص بها الدوائر. فقد أجبرها على الذهاب لأحد الأغاوات، وطلب منها تنفيذ رغباته. وحينما أخذ منها وطره، هربت من المنزل، لكنها وقعت بيد المزوار ثانية، حيث أخذ منها كل النقود التي كانت بحوزتها، لكنه لم ينجُ من عقاب السّلاوي الذي قتله طعناً بالسكين، وهرب ليختبئ بعيدًا عن الأنظار. وقبل رحيل صديقه الحميم ابن ميار، سحبت زوجته قلادة ذهب تحمل مصحفًا صغيرًا، وعلّقتها في عنق دُوجة التي شعرت لحظتها أن الله الذي اختار أمها إلى جواره قد أحاطها بأمهات كثيرات، مثل لالّة سعدية وزهرة وغيرهن من النساء اللواتي طوّقنها بالرعاية والمحبة والحنان.
ويبدو الكاتب الشاب عبد الوهاب عيساوي (1985) أكثر الروائيين الجزائريين أمانة للحوادث التاريخية التي وقعت بين معركة واترلو في 18 يونيو (حزيران) 1815 والسنوات الثلاث التي أعقبت الحملة الفرنسية على الجزائر عام 1830. ولعل الميزة الأكثر أهمية لهذه الرواية حيوية هذه الشخصيات ومصداقيتها، إذ نجح عيساوي في إحياء التاريخ، واستنطاق قصصه التي ظلت مركونة على أرفف المكتبات لأكثر من قرنين من الزمان.
وتلامس الثيمات الفرعية للرواية أحداثاً مؤلمة تهزّ المشاعر الإنسانية، حينما يفرّق جنود الاحتلال الفرنسي بين اليولداش الأتراك وزوجاتهم الجزائريات اللواتي خلّفوهنّ في الجزائر، رغم أنّ الإنكشاريين هم محتلون أيضاً، لكنهم يستحقون تسوية إنسانية عادلة من أجل زوجاتهم وأبنائهم الذين وجدوا أنفسهم في ظروف عصيبة لا يُحسَدون عليها. وتفحص الرواية في مواضع متعددة شخصية نابليون بونابرت، وتصفه ب"المجنون الذي يركض وراء أحلام لا حدود لها". فرغم خبرته الحربية، فإنه قاد مقاتليه إلى كوارث كثيرة أفضت به إلى المنفى والعزلة الانفرادية.
تعتمد الرواية التاريخية، في الأعمّ الأغلب، على السرد المتسلسل، لكنّ رواية "الديوان الإسبرطي"، من روايات "القائمة القصيرة" لجوائز "البوكر" العربية والصادرة عن "دار ميم للنشر" في الجزائر، للروائي عبد الوهاب عيساوي، تُراهن على السرد المتناوب الذي تقوم به خمس شخصيات رئيسة، وهي: "ديبون، وكافيار، وابن ميار، وحمّة السلاّوي، ودُوجة". كما تنطوي الرواية على أكثر من 30 شخصية ثانوية، تؤدي أدوارها المؤازرة للشخصيات المحورية، وتؤثث الفراغات التي قد تُترَك بين تضاعيف المتن السردي.
وتغطي الرواية الحقبة الزمنية المحصورة بين عامي 1815 و1833. أما المكان فيمتد من الجزائر إلى باريس، وبعض المدن والموانئ الفرنسية، وينتهي بإستانبول، عاصمة الدولة العثمانية آنذاك. وتأخذ الرواية طابع اليوميات، أو المذكّرات الشخصية، ولو شئنا الدقة لقلنا "الاستذكارات". فالرواة الخمسة يستذكرون ما مرّ بهم من أحداث قد تبدو ضئيلة، لكنها في واقع الحال تنطوي على كثير من التفاصيل الدقيقة التي ترصد طبيعة الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية، من دون أن تهمل الجوانب السياسية في المثلث التركي - الجزائري – الفرنسي. ولعل أهمّ ما في هذه التفاصيل دراسة الطبائع الاجتماعية للإنسان التركي والفرنسي والجزائري، عبر ثنائية القوة والضعف، التحرّر والاستعباد، الأوهام والحقائق الدامغة. وثمة تفاصيل أخرى ترصد طبيعة الإنسان الجزائري، أو المغاربي العربي بشكل عام، من خلال عقليته الشفاهية التي لا تُحبّ التدوين، على غرار الإنسان الأوروبي، أو التركي بدرجة أقل، هي التي منحت النص السردي بُعداً معرفياً شديد الإغراء، ساهم إلى حدٍ كبير في تسريع الإيقاع السردي المتباطئ، وانتشال الرواية من سكونيتها أو حركتها الدائرية التي تتكرر خمس مرات في القسم الواحد من أقسام الرواية الخمس.
وتحتاج هذه الرواية إلى صبر طويل لمواصلة قراءتها من قبل كثير من القرّاء الذين يبحثون عن أحداث متسارعة لا توفّرها رواية "الديوان الإسبرطي" التي تلتف حول نفسها بحلقة دائرية، قبل أن تندفع للأمام، لتعاود الكَرّة من جديد، ملبّية طلب الأصوات المتعددة التي تروي استذكاراتها بطريقة دائرية لا يشعر القارئ باندفاعها إلا لمامًا.
واختار عبد الوهاب عيساوي شخصيتين فرنسيتين، أولهما ديبون، مراسل الحملة عام 1830، وهو شخص مناصر للقضية الجزائرية، لا يجد حرجاً في تعرية الممارسات القمعية للاستعمار الفرنسي، وينشر مقالاته في صحيفة "لوسيمافور دو مرساي". ولعل أبرز ما جاء في يومياته حديثه عن بورمون الذي اختاره الملك لقيادة الحملة الفرنسية، رغم أنّ كثيرين يؤاخذونه على خيانته القديمة في واترلو، ولن تشفع له كل المعارك التي خاضها، والتضحية بولديه اللذين قُتلا في الجزائر. وعندما سقط الملك في باريس، لم يجد بورمون أمامه سوى المنفى الإنجليزي، حيث ينتظره الملك المعزول. أما الشخصية الفرنسية الثانية، فهي كافيار الذي كان وزيراً في حملة نابليون، وأسيرًا سابقًا لدى الأتراك. فلا غرابة أن يحقد على الأتراك والجزائريين معًا. وثمة وصف دقيق لطرق التعذيب التي تعرّض لها بشكل فردي وجماعي، سواء في حمل الصخور الثقيلة لمسافات طويلة وتفريغ قفاف الملح من السفينة إلى صناديق مهيأة على رصيف الميناء والنوم الجماعي لكل ثلاثين شخصًا في غرفة صغيرة لا تتجاوز مساحتها تسعة أمتار مربعة. وتختصر هذه الشخصية الفرنسية أشياء كثيرة في الرواية، مثل الحديث عن القيود التي وضعت على يهود الجزائر، أو وصف المعالم الخارجية للقبائل، أو الحديث عن بوتان، الجاسوس الذي أرسله نابليون لكي يكتب تقاريره السرية عن الجزائر، ويرسم خرائطها التي تُعينه في أثناء الحملة العسكرية. باختصار شديد، هذا الرجل الذي دخل الجزائر مغلولاً، وعاد إليها من جديد لكي يضع القيود في أرجل الأتراك والمُور معًا. وفي مقابل الشخصيتين الفرنسيتين، يقدِّم لنا عبد الوهاب عيساوي ثلاث شخصيات جزائرية، وهي: ابن ميار، وحمّة السّلاوي، ودُوجة بائعة الهوى التي ستتوب وتكرّس حياتها للسّلاوي. يحتل ابن ميار مناصب متعددة، لكننا سنكتفي بمنصب كاتب الديوان الذي يدوِّن فيه شكاوى المواطنين، ويرفعها إلى المسؤولين الجزائريين والفرنسيين، لكنه يؤكد بين آونة وأخرى أنّ الجزائر لن تكون إلا لأهلها. ومن بين الأشياء الكثيرة التي يرويها قصة نهب المساجد وتدميرها، مثل مسجد "السيدة" الذي سوّوه بالأرض، وجامع كتشاوة الذي حوّلوه إلى كنيسة. وحينما تصل شكايته الأولى إلى الملك، تأتي اللجنة، لكنه لم يجنِ منها سوى النفي والترحيل إلى إستانبول، هو وزوجته لالّة سعدية، تاركين دُوجة عند لالّة زهرة التي تنتظر عودة حمّة السّلاّوي على أحرّ من الجمر. ويمكن وصف الشخصية الرابعة حمّة السّلاّوي بأنه جزائري عربي مُحب لوطنه، كاره للخونة والمتآمرين، وسوف يقتل المِزوار لأنه اغتصب دُوجة، واعتدى على كثير من فتيات "المحروسة"، الاسم الآخر للجزائر. وبسبب هذه "الجريمة"، يجد السّلاوي نفسه مضطراً للاختباء، بعد أن أصيب بطلق ناري في ساقه، وهو يفكر جدياً بمغادرة "المحروسة"، رفقة دُوجة، والالتحاق بجيش الأمير عبد القادر.
وتروي دُوجة، وهي الشخصية الخامسة، قصتها أيضًا، فنُفجَع بموت والديها وشقيقها الأوحد منصور، ثم يدفعها الفقر المُدقع لتجد نفسها في حي البغاء. وبما أنها جميلة، فإنها تقع تحت رحمة الأعين المتربصة بها، فتنتقل من بيت تاجر لآخر، لكنها تصبح في خاتمة المطاف مطربة في فرقة لالّة مريم التي تكلّفها بإحياء حفلة خاصة لأحد السادة الأتراك، وتنجح في مهمتها لأن خامة صوتها جميلة، لكن المِزوار كان يتربص بها الدوائر. فقد أجبرها على الذهاب لأحد الأغاوات، وطلب منها تنفيذ رغباته. وحينما أخذ منها وطره، هربت من المنزل، لكنها وقعت بيد المزوار ثانية، حيث أخذ منها كل النقود التي كانت بحوزتها، لكنه لم ينجُ من عقاب السّلاوي الذي قتله طعناً بالسكين، وهرب ليختبئ بعيدًا عن الأنظار. وقبل رحيل صديقه الحميم ابن ميار، سحبت زوجته قلادة ذهب تحمل مصحفًا صغيرًا، وعلّقتها في عنق دُوجة التي شعرت لحظتها أن الله الذي اختار أمها إلى جواره قد أحاطها بأمهات كثيرات، مثل لالّة سعدية وزهرة وغيرهن من النساء اللواتي طوّقنها بالرعاية والمحبة والحنان.
ويبدو الكاتب الشاب عبد الوهاب عيساوي (1985) أكثر الروائيين الجزائريين أمانة للحوادث التاريخية التي وقعت بين معركة واترلو في 18 يونيو (حزيران) 1815 والسنوات الثلاث التي أعقبت الحملة الفرنسية على الجزائر عام 1830. ولعل الميزة الأكثر أهمية لهذه الرواية حيوية هذه الشخصيات ومصداقيتها، إذ نجح عيساوي في إحياء التاريخ، واستنطاق قصصه التي ظلت مركونة على أرفف المكتبات لأكثر من قرنين من الزمان.
وتلامس الثيمات الفرعية للرواية أحداثاً مؤلمة تهزّ المشاعر الإنسانية، حينما يفرّق جنود الاحتلال الفرنسي بين اليولداش الأتراك وزوجاتهم الجزائريات اللواتي خلّفوهنّ في الجزائر، رغم أنّ الإنكشاريين هم محتلون أيضاً، لكنهم يستحقون تسوية إنسانية عادلة من أجل زوجاتهم وأبنائهم الذين وجدوا أنفسهم في ظروف عصيبة لا يُحسَدون عليها. وتفحص الرواية في مواضع متعددة شخصية نابليون بونابرت، وتصفه ب"المجنون الذي يركض وراء أحلام لا حدود لها". فرغم خبرته الحربية، فإنه قاد مقاتليه إلى كوارث كثيرة أفضت به إلى المنفى والعزلة الانفرادية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.