رغم بشاعة وقسوة العملية الإرهابية الوحشية التى ارتكبها تنظيم داعش فى باريس يوم 13 نوفمبر الماضى، وما نتج عنها من خسائر بشرية ومادية جسيمة، وما كشفت عنه من تطور فى الأداء الإرهابى لهذا التنظيم تمثل فى تعدد الضربات ضد أكثر من موقع وهدف فى وقت واحد لتشتيت جهود أجهزة الأمن، والسعى لإحداث أكبر حجم من الخسائر البشرية لإثارة الرعب والفزع والترويع بين الشعوب والمؤسسات الحاكمة فى الدول، ووضع الأخيرة فى مواقف حرجة أمام شعوبها تشير بعجزها عن مواجهة هذا الاخطبوط المتنامى القدرة على الانتشار فى مختلف بلدان العالم، والضرب بقوة حينما وأينما يشاء، وإعطاء إيحاء كاذب بأنه قوة لا تقهر.. رغم كل ذلك فإن هذه العملية لا تخرج فى المحصلة النهائية عن كونها عملية إرهابية مثل باقى العمليات السابقة والحالية والتى قد تقع - لا قدر الله - فى المستقبل، تحتاج إلى رؤية ومعالجة مختلفة عن معالجات الماضى التى ثبت فشلها ولم تحقق أية نتيجة على صعيد مواجهة الإرهاب، لا سيما أن هذه المعالجات نجدها تتمحور وتنتهى حول ضرورة التوصل إلى حل سياسى ورقة السورية، وأن لا بديل عن ذلك. ونحن فى هذا المقال سنثبت ونؤكد ليس فقط صعوبة التوصل إلى حل سياسى لهذه الأزمة، بل وأيضاً عقم وسذاجة مجرد التفكير فى ذلك لأسباب عديدة ليست خافية عن الجميع، ولكن المسئولين عن مواجهة وحل هذه الأزمة يتجاهلون هذه الأسباب رغم كونها حقائق بارزة أمام أعين الجميع كالشمس فى كبد السماء لا تخطئها عين. عوامل استحالة حل الأزمة سياسياً فى المؤتمر الصحفى الذى عقده وزير الخارجية كيرى مع وزير خارجية فرنسا عقب الحادث، تحدث كيرى طويلاً عن ضرورة سرعة التوصل إلى حل سياسى للأزمة السورية، وطالب بضرورة إشراك أكبر عدد من دول المنطقة فى مؤتمر دولى لتحقيق هذا الهدف، ولمواجهة الإرهاب، أما الرئيس الأمريكى باراك أوباما فقد كان أكثر واقعية، حيث بشرنا بأنه لا حل سريعاً لمشكلة داعش، وقد يحتاج الأمر لأكثر من عشر سنوات!! ونحن من جانبنا لا نختلف مع أوباما فى تقديره للزمن الذى توقعه لحل مشكلة داعش، وإن كنا نختلف معه وبقوة حول الأسباب والذرائع التى أوصلته إلى هذا الاستنتاج، كما لا نرى أى أفق سياسى لحل الأزمة السورية فى المستقبل القريب، كما لا نتوقع - للأسف الشديد- أن أزمة سوريا تعود إلى وضعها الموحد التى كانت عليه فى السابق فى هذا المدى الزمنى، ويرجع تقديرنا هذا إلى الأسباب الآتية: 1 - الخسائر البشرية والمادية الجسيمة التى أحدثتها جرائم نظام بشار الأسد ضد الشعب ومؤسسات الدولة فى سوريا، والتى تمثلت فى حوالى مليون سورى بين قتيل ومعوق، وأكثر من مليون مهاجر إلى خارج سوريا، فضلاً عن حجم ضخم من الدمار ليس فقط فى البنية الأساسية للدولة، ولكن أيضاً فى مساكن وممتلكات المواطنين السوريين، إلى جانب تفسخ واسع فى مؤسسات الدولة وأخطرها الجيش السورى، ناهيك عن انتهاك حرمات أراضى وأجواء والمياه الإقليمية لسوريا بواسطة أكثر من عشرين دولة أجنبية، وحوالى 200 منظمة مسلحة، جميعهم يمرحون فى سوريا دون أى ضابط أو رابط، مما أدى إلى سقوط ونهاية استقلال سوريا ووحدة أراضيها،حيث لم يعد بإمكان نظام بشار وجيشه أن يسيطروا سوى على حوالى 20٪ من الأراضى فى غرب سوريا وبحذاء الساحل، وهم محاصرون فى شريحة تمتد من حلب وحماة وحمص ودمشق، فضلاً عن المدن الساحلية فى طرطوس واللاذقية التى تحولت إلى قواعد عسكرية روسية، أما باقى الأراضى السورية فهى موزعة بين منظمات معارضة وإرهابية تسيطر أيضاً على حقول النفط السورى، وما أحدثه كل ذلك من آثار سياسية واقتصادية واجتماعية خطيرة على الشعب السورى.. ربما أخطرها الآثار النفسية السلبية على هذا الشعب، والذى لا يمكن أن ينسى أو يغفر لبشار الأسد ونظامه مسئوليتهم عن هذه الكوارث، حيث ستسجل فى ذاكرة السريين لعقود زمنية طويلة، ومن ثم رفض أى حل سياسى يبقى على الأسد رئيساً على سوريا. 2 - حدوث تقسيم واقعى على الأراضى السورية يخضع لاعتبارات طائفية وعرقية ومذهبية وسياسية، ويراد لدول كبرى فى الدائرتين الإقليمية والدولية ترسيخ هذا التقسيم لتتحول الدولة السورية إلى عدة دويلات صغيرة وضعيفة وذلك بواسطة القوى المسيطرة على هذه المناطق وتعمل لحساب هذه الدول، حتى إن بشار الأسد نفسه صار يتحدث عن الاهتمام فقط ببقاء سوريا المفيدة ويعنى بها المنطقة العلوية فى غرب سوريا، وهو ما يعنى أيضاً استعداده للتجاوب مع مشروع تقسيم سوريا مقابل أن يحتفظ بسيطرته على الدويلة العلوية، أما باقى سوريا فلتذهب - فى نظره - إلى الجحيم، حيث استقل الأكراد بالمدن والقرى الشمالية على الحدود مع تركيا، وكذلك التركمان الذين يسيطرون على 11٪ من الأراضى السورية، كما تسيطر داعش على 32٫5٪ من الأراضى فى شرق ووسط سوريا، أما الجيش الحر فإنه يسيطر على 8٫7٪ فى حين تسيطر قوات النظام السورى ومعه الإيرانيين وقوات حزب الله على 20٫3٪، وتبقى 28٫4٪ غير خاضعة لسيطرة محددة (يدخل فيها جبهة النصرة بشرق سوريا). 3 - زيادة تورط الأطراف الدولية والإقليمية فى الأزمة السورية، وتعارض مصالحها، وهو ما يزيد من حدة الأزمة وتصاعدها بما قد لا يستطيع معها أى طرف أن يسيطر عليها، ويديرها برشادة، وأبرز مثال على ذلك حادث إسقاط المقاتلة السورية (سد - 24) بواسطة مقاتلات (إف - 16) التركية، وما قد يؤدى إليه ذلك من مضاعفات خطيرة على صعيد العلاقات الروسى، سواء مع تركيا أو حلف الناتو أو الولاياتالمتحدة، حيث لا يعتقد الرئيس الروسى بوتين أن عملية إسقاط الطائرة الروسية، قد تمت دون ضوء أخضر من الولاياتالمتحدة والناتو، ورغم إدراك الجميع خطورة هذا الحادث وتبعاته، ومن ثم فإنه فى اعتقاده ينبغى أن يسعى رد الفعل الروسى لمعاقبة كل هؤلاء للمحافظة على هيبة روسيا على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، لا سيما أن هذا الحادث سبقه بأيام حادث آخر سقطت فيه طائرة ركاب روسية فى شرم الشيخ راح ضحيتها أكثر من 200 مواطن روسى بواسطة عمل إرهابى، الأمر الذى يفرض على «بوتين» اتخاذ إجراءات قوية تعيد للقيادة الروسية هيبتها أمام شعبها، والدول الأخرى، وتردع قوى الإرهاب عن الاستمرار فى عملياتها الإرهابية، وكلها إجراءات تبعد الحديث عن الحل السياسى للأزمة السورية إلى مدى ومسافة بعيدة. 4 - زيادة تورط الأطراف الإقليمية والدولية عسكرياً فى الأزمة السورية، وهو ما تمثل فى ضربات التحالف الغربى الذى يضم أكثر من 20 دولة بدعوى محاربة المنظمات الإرهابية، بالإضافة للتدخل العسكرى المكثف لروسيا التى أقامت بالفعل ثلاث قواعد عسكرية قوية فى المنطقة الساحلية غرب سوريا، حيث اللاذقية وطرطوس، كما تورطت إيران وحزب الله فى الحرب إلى جانب نظام بشار الأسد، وحيث يقود الجنرال قاسم سليمانى قائد فيلق القدس فى الحرس الثورى الإيرانى العمليات البرية ضد قوات المعارضة السورية، خاصة قوات الجيش الحر، التى تحاصر قوات الجيش النظامى فى مدن غرب سوريا، أما تركيا فإن تورطها فى شمال سوريا أصبح مفضوحاً حيث تقوم بدعم داعش ليس فقط بالسماح للإرهابيين بالأسلحة والمعدات بالتسلل عبر الحدود التركية إلى سوريا، وأيضاً علاجهم، ولكن أيضاً بشراء النفط السورى من داعش بأسعار مخفضة، فضلاً عن سعى تركيا بإلحاح لإنشاء منطقة عازلة بشمال سوريا بحذاء الحدود التركية، من الطبيعى أن تسيطر عليها تركيا بدعوى رعاية معسكرات اللاجئين فى هذه المنطقة، ويزيد من تعقد الأزمة وتورط أطرافها عسكرياً فيها حدة ضغط عامل الوقت على الجميع، مع التوالى السريع للحوادث الإرهابية من قبل داعش على النحو الجارى فى مصر وفرنسا وتونس وتركيا، وغيرها من الدول، مما يزيد من حدة التخبط فى إدارة الأزمة، وصدور قرارات سياسية وعسكرية متسرعة وغير رشيدة، حيث يحاول جميع الأطراف التخلص من المستنقع السورى وبسرعة، مع تحقيق أكبر قدر من الأهداف وبأقل خسائر ممكنة. 5 - إغفال حقيقة أهداف داعش الذى يرفض أى حل سياسى لا يحقق أهدافه، وباعتبارها تشكل جوهر المشكلة، حيث لا يقبل داعش سوى باعتباره يمثل دولة الخلافة الإسلامية، من حقه أن يجلب عبر الحدود ويجند أكبر عدد من المقاتلين، وتسليحهم بمختلف الأسلحة والمعدات التى تمكنه من بسط سيطرته على أكبر مساحات شاسعة من الأراضى السورية والعراقية وتوحيدها تحت سيطرته، مع مد هذه السيطرة إلى ما وراء الحدود فى لبنان والأردن ومصر ودول الخليج والمغرب العربى، وبعد ذلك إلى جنوب ووسط أوروبا، فضلاً عن وسط أفريقيا من خلال منظمة بوكوحرام التى تعد امتداداً لداعش هناك، فكيف مع إصرار داعش على تحقيق هذه الأهداف رغم ما يتعرض له من ضربات، أن يتحدث عن عملية سلمية، فهل يعتقد الرئيس أوباما ووزير خارجيته كيرى أنه يمكن لداعش أن يتخلى عن أحد هذه الأهداف؟ هل يمكن لداعش أن يتخلى عن حلم الخلافة؟ وهل يمكن له أن يقبل بالتنازل عن الأراضى التى يسيطر عليها فى سوريا والعراق؟ وهل يقبل أيضاً بالتنازل عن حقول النفط التى يسيطر عليها وتدر عليه 50 مليون دولار شهرياً؟ بل هل يمكن لداعش أن يقبل فى إطار تسوية سلمية أن يسرح ما لديه من مقاتلين ينتمون لدول متعددة ويعيدهم إليه؟ وفى ضوء بديهية عدم ظهور تنازل داعش عن أى من هذه الأهداف، فهل من المتصور أن يقبل داعش بمبدأ الجلوس مع أعدائه على مائدة مفاوضات لتقدم هذه التنازلات، أنه من السذاجة إمكان تصور ذلك. 6 - ويزيد من تعقد أى حل سياسى - بل واستحالته - إمكانية إرضاء جميع الأطراف المتورطة فى الأزمة السورية لتعارض المصالح والأهداف، مع الوضع فى الاعتبار أن معظم الأطراف الدولية المتورطة فى الأزمة تلعب من خارج سوريا بواسطة طائراتها وعملائها، حيث تتعارض أهداف روسيا المتورطة بقواتها فى سوريا مع أهداف أمريكا، لأن روسيا تستهدف تأمين منطقة نفوذ لها فى شرق البحر المتوسط من خلال قواعدها العسكرية التى أقامتها فى اللاذقية وطرطوس لمواجهة النفوذ الأمريكى فى هذه المنطقة، وتعتمد فى ذلك على أسطولها السادس ونفوذها فى بعض الدول العربية وتركيا، كما تسعى أمريكا أيضاً إلى زيادة توريط روسيا فى المستنقع السورى لإضعافها على النحو الذى وقع فى أفغانستان فى السبعينيات والثمانينيات وأدى إلى تفكك الاتحاد السوفيتى، كما يصعب أيضاً التوافق بين روسياوإيران رغم التحالف الاستراتيجى بينهما، حيث تسعى إيران لدعم نظام بشار الأسد ليكون أداتها لفرض نفوذ لها فى شرق المتوسط، ويشكل ظهيراً قوياً لعميلها فى لبنان حزب الله فضلاً عن هدف تصدير الثورة الإيرانية إلى سوريا وتلوينها باللون الشيعى الأسود، وبالتالى فإن أهداف السيطرة الروسية من خلال قواعدها على سوريا، يتعارض تماماً مع أهداف الهيمنة الإيرانية على سوريا من خلال قوات الحرس الثورى الإيرانى وحزب الله، ورغم زعم روسيا حرصها على الإبقاء على بشار الأسد لإرضاء إيران، إلا أنه من البديهى ألا يستمر الرهان الروسى على حصان خاسر مع بشار الأسد لفترة أطول من ذلك، بعد أن ظهر بوضوح رفض معظم الشعب السورى له، هذا إلى جانب صعوبة إرضاء باقى الأطراف، وإجبارها فى ظل تسوية سياسية على التخلى عما يقع تحت أياديها من أراضى وثروات.. فلا يمكن طمأنة الأكراد وإجبارهم على التنازل عما تحت أيديهم من أراض وحقول نفط بشمال سوريا، بعد أن حققوا شبه حكم ذاتى مثل الذى حققه إخوانهم الأكراد بشمال العراق، وبالمثل من الصعوبة إرضاء العلويين الشيعة والسنة (النصرة) وأن يتخلوا عن مصالحهم وأهدافهم والأراضى التى سيطروا عليها بالحرب، ناهيك عن صعوبة الحصول على موافقة دول الخليج بإبقاء الأسد على رأس السلطة فى سوريا ولو إلى حين، حيث تعتبره هذه الدول بمثابة سبب الأزمة والمشاكل، وليس مؤهلاً للمشاركة فى حلها بعد كل ما ارتكبه من جرائم ومجازر فى حق شعبه. لماذا تحل أمريكا الأزمة سياسياً وهى تحقق أهدافها ومخططاتها؟ من الغريب أن نسمع وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى وهو يتحدث مراراً فى المؤتمرات الصحفية التى عقدها بعد حادث باريس عن ضرورة وحتمية التوصل إلى حل سياسى للأزمة السورية، فى حين أن هذه الأزمة شأنها شأن الأزمات الأخرى فى ليبيا والعراق واليمن وفلسطين تحقق أهداف ومصالح ومخططات أمريكا من أجل بسط هيمنتها كقطب واحد على النظام العالمى الجديد الذى أعلن عنه كل من الرئيس الأمريكى بوش الأب عام 1992 عقب حرب تحرير الكويت، وبوش الابن عام 2003 عقب الحرب على العراق، واحتلالها بالقوات الأمريكية، وحددت الإدارات الأمريكية المتتالية وحتى اليوم أساليب تحقيق هذه الأهداف والمخططات، ووسائل تنفيذ ذلك. فقد حدد رؤساء أمريكا منذ ما قبل أيام الحرب الباردة فى السبعينيات فى عهد نيكسون ووزير خارجيته كسينجر وحتى أوباما اليوم، مروراً بالرؤساء كلينتون وبوش الأب وبوش الابن، حددوا الهدف القومى لأمريكا فى أن تكون وحدها المتربعة على رأس النظام العالمى الجديد، فيما عرف ب«الأحادية القطبية»، ومن أجل تحقيق هذا الهدف سعت الإدارات الأمريكية المتالية إلى تفكيك الاتحاد السوفيتى السابق، وإضعاف روسيا التى خرجت من بطن هذا الاتحاد ضعيفة وهزيلة بعد أن نجحت المؤامرات الأمريكية فى قطع الكثير من أذرعها فى أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، ونزع العديد من الريش الذى كان يكسى ويحمى روسيا، خاصة فى عهد كل من جورباتشوف ويليتسينى وهو ما تصدى له الرئيس الروسى الحالى بوتين بقوة خاصة فى وجه الحركات الانفصالية فى الشيشان وداغستان وغيرها، وأعاد إلى روسيا وقتها هيبتها على الصعيد الدولى، وتحدى الفوضى الغربية فى عدد من الأزمات الدولية، وكان أبرزها أزمة أوكرانيا حيث نجح فى انتزاع شبه جزيرة القرم وضمها إلى روسيا رغم العقوبات الدولية التى فرضت على روسيا، وكان آخر تصريح له بعد تدخله فى سوريا عسكرياً ونجاحه فى إنشاء قواعد عسكرية لروسيا فى شرق البحر المتوسط بغرب سوريا، وهو ما عبر عنه قائلاً: «لقد انتهى عصر الأحادية القطبية»، مشيراً إلى فشل أمريكا فى تحقيق هدفها القومى بالجلوس وحدها على قمة النظام العالمى الجديد، ومن هنا جاء سعى الإدارة الأمريكية إلى توريط روسيا أوسع وأعمق فى المستنقع السورى حتى يكون أشبه بالمستنقع الأفغانى الذى تورط فيه الاتحاد السوفيتى فى السبعينيات، وكان من الأسباب الرئيسية التى أدت إلى تفككه، ومن ثم علينا أن نتفهم حادث إسقاط المقاتلة الروسية فى 24 نوفمبر الماضى بواسطة المقاتلات التركية فى إطار هذا السعى الأمريكى لمزيد من توريط روسيا فى المستنقع السورى، وأيضاً مع تركيا بفعل ردود الأفعال القوية المتوقعة من جانب روسيا ضد تركيا التى بدأ على الفور عقب الحادث تستنجد وتستغيث بحلف الناتو، ومن ثم فإن مزيداً من تورط روسيا فى المستنقع السورى، وربما التركى أيضاً، يصب تماماً فى مصلحة أمريكا وتحقيق هدفها القومى المشار إليه آنفاً، وهو ما يدركه بوتين جيداً ويحاول تجنبه، لذلك رفض إقحام قوات برية روسية فى هذه الحرب مكتفياً بالتدخل الجوى، مكلفاً قوات الجيش السورى النظامى وحلفاءه باستغلال الضربات الجوية الروسية فى شن هجمات برية ضد قوات المعارضة السورية، خاصة فى القطاع الممتد من حلب إلى حماة وحمص وفى دمشق فى غرب سوريا، لذلك فإن أى حل سياسى للأزمة السورية يتعارض مع مصالح وأهداف أمريكا فى إضعاف روسيا من خلال زيادة توريطها فى المستنقع السورى، لا سيما بعد أن حرص «بوتين» على الحصول على دعم ومساندة الصين التى عبرت عن دعمها لروسيا بتحريك إحدى سفنها إلى شرق البحر المتوسط. ولأن أمريكا وحلفاءها يعلمون ويدركون جيداً فى ضوء الصراع الدولى القائم حتمية وقوع حرب كونية ثالثة بين قوى التحالف الغربى الذى تترأسه أمريكا وبين كل من روسيا والصين، فإنه يتعين على أمريكا أن تستعد لذلك وتتهيأ له ببسط هيمنتها على منطقة الشرق الأوسط ذات الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية، ولأن الدول القوية فى هذه المنطقة مثل مصر وسوريا والعراق وليبيا تشكل عائقاً أمام تحقيق هدف الهيمنة الأمريكية على هذه المنطقة، لذلك وضعت الخطة السياسية لإضعاف دولها من خلال إثارة النزاعات الداخلية بين أبنائها باستغلال الخلافات العرقية والطائفية والمذهبية والسياسية بينهم، وتحويلها إلى صراعات مسلحة تنعكس على جيوشها وبما يؤدى إلى تقسيمها على نفس الأسس العرقية والطائفية، وبما يؤدى أيضاً إلى احتراب داخلى فى كل دولة عربية يستدعى بالضرورة طلب مساعدات أجنبية تساهم فيها أمريكا والدول الأوروبية، على النحو الذى يجرى فى ليبيا والعراق وسوريا، ويخلق أزمات مسلحة لا حل لها فى الرؤية الأمريكية إلا بتقسيم الدول المتحاربة، وعلى النحو الذى وقع عملياً فى العراق التى انقسمت فعلياً إلى ثلاث دويلات، كردية فى الشمال وشيعية تهيمن عليها إيران فى الجنوب وسنية فى الوسط والغرب تسيطر عليها داعش، كما وقع فعلياً فى سوريا التى انقسمت أيضاً إلى عدة دويلات، علوية فى الغرب، وكردية فى الشمال، وسنية فى الوسط والجنوب، فضلاً عن دويلة داعش فى الشمال الغربى والوسط، ومنظمة النصرة فى الشرق، ووقع التقسيم أيضاً فى ليبيا التى تحولت إلى ثلاث دويلات برقة فى الشرق يسيطر داعش على أجزاء منها فى سرت ودرنة وفزان فى الوسط وطرابلس فى الغرب يسيطر عليها جماعة الإخوان، نفس الأمر يتكرر فى اليمن التى تتعرض لحرب دامية بين الحوثيين التابعين لإيران والقوى الوطنية هناك بدعم من دول الخليج العربى، وهكذا نجحت أمريكا فى تنفيذ مخطط تقسيم الوطن العربى عرقياً وطائفياً ومذهبياً بأيدى أبناء هذه البلدان العربية، وبإيعاز وتخطيط ودعم أمريكى تنفيذاً لدعوة كسينجر فى التسعينيات بضرورة تعريب الصراع العربى الإسرائيلى أى بجعله صراعاً عربياً عربياً، ومخطط استراتيجية إسرائيل فى الثمانينيات الذى وضعه الدبلوماسى الإسرائيلى ومدير مكتب مناحم بيجن، رئيس وزراء إسرائيل فى السبعينيات، ودعا فيه إلى ضرورة استعادة إسرائيل لسيناء، بل والاستيلاء أيضاً على مدن القناة الثلاث، إلى جانب تقسيم باقى الدول العربية على النحو السابق شرحه، ووقع فعلياً خلال الشهور الماضية باستثناء مصر التى حافظت على وحدتها وصلابة جيشها فى وجه المؤامرات العديدة والشرسة التى وجهت ضدها لتفتيت أراضيها وتقسيمها إلى ثلاث دويلات، مسلمة فى الدلتا وحتى المنيا وعاصمتها القاهرة ودويلة ثانية قبطية فى المنطقة من المنيا وحتى أسيوط وغرباً إلى وادى النطرون، ومطروح وعاصمتها الإسكندرية ودويلة ثالثة نوبية تمتد من أسيوط إلى جنوب وادى حلفا بالسودان، وعاصمتها أسوان، على أن تستولى إسرائيل على سيناء ومدن القناة الثلاث، ولكن كل هذا المخطط التقسيمى انهار وفشل فى تحقيق أى من أهدافه الذى تكاثرت وتكالبت المؤامرات ضد مصر على النحو الذى نراه حالياً، ولكنه لم يفت فى عضد المصريين الذين التفوا حول قيادتهم وجيشهم مما أدى إلى تحطم كل هذه المؤامرات على صخرة صلابة ووعى شعب مصر وجيشها، وهو ما دفع رأس المؤامرة المتمثلة فى الولاياتالمتحدة إلى معاقبة مصر بقطع المساعدات العسكرية عنها، ودعم ومساندة القوى المعادية لمصر فى الداخل وعلى رأسها جماعة الإخوان. وبالتالى.. وكما تساهم الأزمة السورية فى تحقيق الأهداف القومية الأمريكية، فإنها تساهم أيضاً فى تنفيذ المخططات الأمريكية لتفتيت البلدان العربية، فلماذا إذن القول بأن أمريكا تسعى إلى حل سياسى فى سوريا، إلا إذا كان الحل السياسى بطبيعته سيؤدى إلى تكريس تقسيم سوريا بين القوى والأحزاب المتصارعة وهذه هى طبيعة أى حل سلمى عن طريق المفاوضات التى تسعى إلى إرضاء جميع الأطراف المتفاوضة بإعطاء كل منهم قطعة من «الكيكة» السورية ليوافقوا على ما تسميه أمريكا الحل السياسى، ويعنى ضمنياً وجوهرياً تقسيم سوريا. أما الأسلوب الذى حددته أمريكا لتنفيذ مخطط تقسيم الدول العربية فهو ما عرفته كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية عام 2006 ب«الفوضى الخلاقة»، ويعنى به إثارة صراعات مسلحة بين الطوائف والعرقيات المختلفة وكل بلد عربى ومسلم، وبين جيوشها، وبما يؤدى إلى إنهاكهم وإضعافهم جميعاً، وسعى كل طرف إلى طلب الدعم والمساندة الأمريكية، وبما يجعل واشنطن متحكمة فى حركة هذه الأطراف بما يخدم مصالحها، وقد تحققت الفوضى بالفعل فى معظم الدول العربية على النحو الذى بدا واضحاً فى أعقاب ما أطلق عليه «ثورات الربيع العربى» ولا يزال مستمراً حتى اليوم، مما تسبب فى سقوط آلاف القتلى والمصابين، وتهجير ملايين من العرب إلى بلدان أخرى، وتخريب وتدمير البنيات الأساسية للدول العربية، وتمزيق جيوشها وتحكم دول أخرى فى مقدراتها على النحو الذى تمارسه إيران فى العراق وسوريا واليمن. وأخيراً إذا استعرضنا الأساليب التى حددها المخططون الأمريكيون لتنفيذ مخططاتهم وبأسلوب نشر الفوضى الذى حددته كوندوليزا رايس، فسنجدهم اعتمدوا أولاً على المنظمات الشبابية المعارضة التى اختاروا عناصرها وتم تدريبهم فى مؤسسات «فريدوم هاوس» بأمريكا، و«أكاديمية التغيير» فى لندن ثم الدوحة وفى مؤسسة «أوبتور» فى صربيا، وأنفقت عليهم أكثر من خمسين مليون دولار، وهو ما اعترفت به السفيرة الأمريكية فى القاهرة، وعندما فشلت هذه العناصر التى تشكلت فى جماعات وتنظيمات تدعى الدفاع عن الديمقراطية وحرية الرأى، كان سبيلها إشعال المظاهرات الصاخبة والمخربة ووسائل الإعلام التابعة لها، ولكن نبذها الشعب المصرى بعد أن اكتشف تبعيتها لأمريكا، وخيانتها لمصر، لجأت بعد ذلك أمريكا إلى الخطة (ب) بالاعتماد على جماعة الإخوان المسلمين التى كانت ولاتزال على استعداد لبيع كل شىء فى سبيل أن تمكنها أمريكا من حكم مصر، إلا أن يقظة الشعب المصرى أفسدت هذا المخطط أيضاً فى ثورة 30 يونية، وأطاحت بحكم الإخوان، فكان أن لجأت أمريكا إلى الخطة (ج) بالاعتماد على المنظمات الإرهابية والمرتزقة والعناصر الأشد تطرفاً مثل داعش والتى نجحت فى تجنيد معظمهم عندما كانوا فى السجون، لتنفيذ أهداف ومخططات تخريب البلدان العربية من الداخل.. على النحو الذى نراه فى سوريا والعراق وليبيا. خلاصة القول: إذا كانت الأهداف والمخططات والأساليب والوسائل الأمريكية التى تحددت قد نجحت فعلاً فى تحقيق المطلوب منها على النحو الذى تراه قائماً، فى الحروب الأهلية وما أسفرت عنه من تقسيمات على الأرض، وما حاق بالبلدان العربية من خراب ودمار وتجزئة، وبشعوبها من قتل وذبح وتهجير، وما أصاب جيوشها من ضعف وانقسامات، فضلاً عن توريط روسيا فى المستنقع السورى، فلماذا تسعى أمريكا إذن إلى حل سياسى للأزمة السورية، إلا إذا كان هذا الحل سيكرس حالة الانقسام القائم فعلياً على الأرض، فى كل من سوريا والعراق وليبيا، ومن ثم فإنه من العبث الحديث اليوم عن حل سياسى للأزمات الناشبة فى هذه البلدان الثلاث إلى جانب اليمن، وإنما الحل الحقيقى يتمثل أولاً فى جعل الشعوب والجيوش تدرك حقيقة الأهداف والمخططات والأساليب والوسائل التى وضعها أعداؤهم للهيمنة على دولهم، ثم باتحاد إرادة وجهود هذه الشعوب والجيوش على مواجهة هذه المخاطر والتهديدات، وبعزل وإقصاء كل القوى العميلة للأعداء فى الداخل، لتتوحد كل الجهود من أجل القضاء عسكرياً على التنظيمات المتطرفة، وعلى رأسها داعش، بحيث تكون المواجهة شاملة سياسية وأمنية وأيديولوجية واقتصادية واجتماعية، بلا انتقائية ولا ازدواجية، أن يتخلى الجميع - ولو مؤقتاً - عن المصالح الآنية والشخصية فى سبيل القضاء على الوباء المسمى بداعش، وهذا بالضبط ما فعله قادة الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية 1945، روزفلت وتشرشل وستالينى، عندما تجاوزوا كل ما بينهم من خلافات سياسية وعقائدية، وتوحدوا فى تحالف استراتيجى ونجح فى القضاء على النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والديكتاتورية العسكرية اليابانية.