رغم الطابع الإشكالي لهذا السؤال، إلا أنه يجد مشروعيته من حقيقة ما يسود من اختلاف في النظر إلى حقيقة الدين وماهيته، وهو الأمر الذي تعبر عنه مظاهر عدة منها مثلاً حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: تنقسم أمتى إلى بضع وسبعين فرقة.. كلهم في النار إلا فرقتي» وهو ما انعكس في طبيعة النظر للإسلام فأنتج ما يمكن اعتباره أكثر من إسلام في التطبيق، وكذلك مقولة علي ابن أبي طالب «القرآن حمال أوجه» وهو ما يعني أنك يمكن أن تستخرج معاني متعددة من ذات الآية، فضلا عن ذلك فإنه مما يؤثر عن عمر بن عبدالعزيز أنه أراد أن يجعل قضاة الأجناد قضاء واحداً ثم أعرض عن ذلك لأنه تعذر عليه إرغام القضاة على مخالفة أعراف أمصارهم ما يكشف عن احتلال العرف إلى جانب النص الديني دوراً في تشكيل سلوك المسلم بشأن كيفية تطبيق الإسلام. الأمر لا يقتصر على الإسلام وإنما يمتد إلى الأديان الأخرى، ومنها المسيحية فمفهوم الدين الصحيح الذي يرفعه كل من يعلن تمسكه بإسلامه، يجد نظيره في مصطلح الأرثوذكسية في المسيحية الذي يعني الطريق القويم. على هذه الخلفية تأتي أهمية تناول هذه القضية بشكل أو بآخر لمفهوم طبيعة الإسلام، وهو الأمر الذي يمكن أن ينعكس في المرونة في التعامل مع فهم الدين وإن كان يبقى من الضروري ان يبقى في حدود ما لا يمثل تجاوزاً لصريح النص. وفي هذا الإطار يمكن استيعاب أهمية الكتاب الذي صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب تحت عنوان «إسلام أم إسلامات.. قراءات ثقافية في الخطاب الإسلامي» للكاتب حاتم حافظ، وسبقه مشروع آخر أكثر تماسكاً هو تلك السلسلة التي صدرت عن دار الطليعة تحت عنوان «الإسلام واحد ومتعدداً» وضمت أكثر من تناول يسعى لتعميق هذه الرؤية. كتاب حاتم يمثل ما يمكن وصفه ب «كتاب سيار» على وزن الصحف السيارة التي من طبيعتها تناول قضاياها بقدر من السرعة، حيث لا يمثل عنوانه «إسلام أم إسلامات» سوى فكرة من مجموعة رؤى يقدمها المؤلف متناثرة، ضمن الكتاب الذي يمثل تجميعاً لعدد من المقالات، يربطها خيط واحد هو تناول الشأن الإسلامي. يبدأ المؤلف عرض موقفه من قضية بالغة الدلالة تتعلق بالموقف من المذابح التي ارتكبها الأتراك ضد الأرمن وأدانها شيخ الأزهر آنذاك الشيخ سليم البشري، متسائلاً إذا كان موقف المتشجنين الأتراك جاء لحماية الشريعة موقفاً إسلامياً فهل موقف البشري غير إسلامي، أم أنه كان موقفاً إسلامياً أيضاً.. وإذا كان كذلك فهل نحن بإزاء إسلاميين؟ يمضي المؤلف في سرد رؤيته قائلاً إن متشددي الأناضول ينطلق من موقف إسلامي بدوي جاهل، فيما كان موقف البشري موقف الإسلام الحضاري المدني وهو ما يعني وفقا له –المؤلف– أننا بإزاء إسلامات لا إسلام واحد وحيد. في تغليب لرؤية التعدد بناء على هذه النظرة يؤكد المؤلف بثقة إننا إزاء إسلامات مشيراً إلى ما يصفه بالحرب الباردة التي تبدو في الأفق اليوم بين المسلمين في مصر وبين المتشددين من رموز الإسلام السياسي، معتبراً أنها ليست سوى حرب بين إسلامين إسلام الحضارة والمدنية التي هي أساس تاريخ مصر، وإسلام البداوة والكراهية والظلامية. من التعميم إلى التطبيق يشير إلى تسيد لفظ «الإسلامية» مقرونا باسم عدد من الدول مثل إيران والسعودية وباكستان والسودان، مؤكداً أنه من الخطأ إطلاق هذه التسمية على إطلاقها وإنما يجب أن تكون مقرونة بتحديد المدارس الفقهية والمذهب الذي تتبعه هذه الدولة أو تلك. غير أن المؤلف، وفيما نراه يبعد به عن فكرته، أو يضعفها فيما يشير إلى غياب التأصيل النظري لها لديه، يقرر أن مثل هذا التعدد –في تحول الإسلام إلى إسلامات– لم يكن ليتحقق لو أن المسلمين لم يتفرقوا سياسياً في بداية ظهور الإسلام وحافظوا على إسلامهم كما نزل على نبي الله محمد حيث كانت الآية تنزل عليه فيفهمها كل السامعين دون مشقة ودون خلاف ودون تحزب. ما يجعلنا نتحفظ على ما يذهب إليه المؤلف هنا هو أن التعددية على النحو الذي يؤدي إلى القول بتعددية الإسلام كامنة في جوهر ليس الإسلام فقط وإنما في جوهر الأديان ككل بل في الأيديولوجيات الفكرية والسياسية وهو ما يبدو مثلا في انقسام الماركسية إلى تيارات وفرق مختلفة، بل وكذلك كما أشرنا وكما يذهب المؤلف نفسه في تعدد مراكز الديانة المسيحية بفعل وجود اختلافات جذرية كثيرة واختلافات هامشية أكثر.. من بين أكثرها حدة تلك المتعلقة بالاختلاف حول طبيعة المسيح نفسه. غير أن عزاء القارئ أن ما قصر فيه المؤلف بفعل عدم بلورة رؤيته على نحو ملائم وبشكل قد يشفي غليله في قراءة المزيد عن هذه القضية، كان هناك مشروع آخر لكي يقدمه على نحو أكثر رصانة وبشكل تفصيلي قد يصل حد الملل وهو المشروع الذي أشرف عليه الدكتور عبدالمجيد الشرفي (تونس) وصدر عن دار الطليعة في بيروت كما أشرنا تحت عنوان «الإسلام واحداً ومتعدداً». وبغض النظر عن الأساس الذي ينطلق منه المشروع وصاحبه وهو أساس علماني يقوم على حالة من الخصومة مع الإسلام والدين في مفهومه العام، ما يجعلك تتلقى بحرص وحذر ما يقدمه لك، إلا أن ما يحكمك في القرءاة موضوعية التناول من عدمها، وهو الأمر الذي يمكن القول معه أن المشروع حاول التزام قواعد البحث العلمي ما أمكنه ذلك مع اختلاف في هذا الأمر في ضوء تعدد الباحثين أو المؤلفين الذين قاموا على إعداد السلسلة حيث تم تخصيص باحث أو كاتب لإعداد موضوعه منشوراً في إصدار منفصل، بشكل تجاوزت معه السلسلة رقم العشرين تقريباً. وللتفصيل نشير إلى أن من بين عناوين السلسلة «إسلام الأكراد، الإسلام الشعبي، الإسلام الأسود، إسلام الفقهاء، إسلام عصور الانحطاط، الإسلام الحركي، إسلام المجددين، الإسلام السني، إسلام المتصوفة، الإسلام الآسيوي، الإسلام العربي، الإسلام في المدينة. من البداية، وفي معرض تحديد طبيعة المشروع وحتى لا يذهب البعض بعيداً في فهم مراميه نقرأ في كتاب إسلام المتصوفة محاولة للتفسير تنطلق من أن طبيعة الإسلام الشاملة ورسالته الخاتمة وعماده القرآني، وهو نص بياني ينفتح على التأويل ويقبل تعدد القراءات، كل ذلك جعل هذا الدين الواحد في مبتدأ ظهوره يحمل في تكوينه البنيوي قابلية للتعدد من داخله ولكن هذا التعدد يستمد مشروعيته منه في كل الأحوال، فلا يبلغ مهما تنوعت المؤثرات فيه، حد الخروج عن أصوله والانقطاع عن مبادئه جملة وتفصيلاً. وعلى ذلك يؤكد محمد بن الخطيب مؤلف إسلام المتصوفة، أن قوله ذلك لا يعني أنه ديانة جديدة وملة مستحدثة مباينة للإسلام خارجة عن أصوله وقواعده وإنما يعني السعي لاستكشاف خصائص الرؤية الصوفية للإسلام ومظاهر اجتهاد أصحابها نظرياً وعملياً في جعل الإسلام ديناً صوفياً. وفي تحليل هذا الإسلام الصوفي، يذكر المؤلف أن الخصائص المميزة له لا تخرج عن ثلاث الحب الإلهي والمعراج الروحي والذوق القلبي حيث قام على تحليلها بالقدر الذي يجلوها ويوضح غوامضها. وفي تحديد لبعد آخر للمشروع تذكر آمال كرامي، في كتاب الإسلام الآسيوي، أن ليس الدين وحده العامل المؤثر في حياة الناس ومسيرة المجتمع التاريخية وإنما هناك عوامل أخرى عديدة تنهض بدور مهم كالاقتصاد والبنية العرقية الثقافية التي زرع فيها الإسلام والتركيبة الاجتماعية والتاريخية وحتى المناخ، إلى غير ذلك من العوامل التي تؤثر في الإسلام وتلونه بألوانها وتظهره في لبوس خاص. وفي سياق الكتاب تشير المؤلفة إلى أن معالجتها لموضوعها إنما تعنى بتوضيح كيفية ممارسة الإسلام في عدد من المجتمعات الآسيوية، فالإسلام التركي مثلاً له صلة متينة بحوض البحر المتوسط أي أنه مرتبط بالغرب أكثر من ارتباطه بالشرق، كما أن خضوعه للعلمنة الإجبارية أضفى عليه سمة خاصة ميزته عن سائر الإسلامات. أما الإسلام الهندي فإنه لا يمثل نسيجا موحدا بل هو معقد ويطرح مشاكل متعددة كوسائل الاندماج وطرق المحافظة على الهوية أما الإسلام في إندونيسيا فيوصف بأنه الإسلام المتسامح، في حين أن الإسلام الإيراني هو إسلام هيمنة المؤسسة الدينية الرسمية. ومن بين مجالات الرصد المهمة في إطار السلسلة يأتي كتاب الإسلام الشعبي، والذي يتمثل في رؤية العوام للدين.. فالمسلم العامي، حسب الكتاب، مثلا يتصور الله تصوراً نفعياً خاصة لذلك يستحضره بواسطة الأقوال والطقوس في كل فعل ينوي القيام به وفي كل مطلب يروم تحقيقه. والمسلم الشعبي يضفي على الولي الذي يؤمن بكرامته ملامح إلهية فهو حي وإن كان في الظاهر ميتا لذلك يدعوه لكي يتدخل لفائدته في مختلف أحداث حياته، وهو قادر، رغم موته الظاهر، على أن يجر للمؤمن به النفع وعلى أن يدفع عنه الضرر، لذلك تشكل زيارة الوي طقساً من طقوس العبارة القارة في مختلف أحداث حياة المسلم في الولادة والختان والبلوغ والزواج وعند المرضي والامتحان. ومن إسلام العوام إلى إسلام الفقهاء يقدم لنا إصدار آخر ضمن السلسلة أن أول ما يجدر التنبيه إليه أن الفقهاء ينظرون إلى الدين من زاوية ما سموه بالأحكام، أي في إطار الحلال والحرام وما بينهما من مندوب ومكروه وهذا الأحكام هي في الحقيقة متأخرة عن زمن الرسالة فلا نقف على تحديد لها في النص القرآني، ولكن رغم ذلك فإن الفقهاء اعتبروها ملخصة للدين برمته وهو موقف تبناه العديد من الحدثين فأكدوا على المماهاة بين الدين والفقه. وفي إطار التأكيد على تعددية الإسلام أو الإسلامات يأتي كتاب الإسلام الأسود والذي يقوم على دراسة الإسلام جنوب الصحراء الكبرى. غير أن ما يلفت النظر هنا هو تحفظ الكاتب محمد شقرون على مضمون التسمية للدراسة التي يقوم بها معتبراً أنها فكرة غربية تعتمد الجنس وتبحث عن الاختلاف وتركز عليه لغايات كانت وراء نشرها في بداية القرن الماضي. ورغم تأكيده على الأصل الاستعماري لتسمية الإسلام الأسود في وصف وضع المسلمين الأفارقة إلا أنه يشير إلى ما ذهب إليه باحث غربي بشأن خصوصية الإسلام جنوب الصحراء لجهة وجود معتقدات وممارسات دينية عند الأفارقة تعود في أصلها إلى المعتقدات السابقة على دخول الإسلام إلى تلك المنطقة، غير أن ذلك لا يجعله يصادق على هذه الرؤية حيث يقرر أن موقف المسلمين جنوب الصحراء من العديد من التحديات لم تختلف عن موقف المسلمين في أماكن أخرى من العالم الإسلامي. وبشكل عام فإنه رغم نجاح المشروع في تحديد أوجه للتمايز بين ما يعتبره المظاهر المختلفة للإسلام إلا أنه كان تحكميا في بعض المواضع، الأمر الذي لم يستطع معه القارئ تبين أوجه اختلافات حقيقية بين ما اعتبره المشروع إسلامات.. مثل الإسلام التركي مقارنة بنظيره الإسلام الأسود مثلاً، أو الإسلام الآسيوي مقارنة بالإسلام العربي.. وإن كان ذلك لا ينفي جوهر الفكرة، غير أن ذلك لا يمكن أن يصل بنا إلى الحد الذي يمكن معه قبول تأكيد البعض على أن الإسلام مثل البحر تستطيع أن تصطاد منه أي الأسماك شئت في إشارة إلى إمكانية تطويع الإسلام لأي من الرؤى والاتجاهات، وهي النظرة التي قد تفرغ الإسلام من مضمونه وتؤكد المحاذير التي قد يدعونا البعض إلى التزامها في شأن عدم الانسياق وراء مثل هذه الاجتهادات الساعية للتمييز بين مظاهر النظر للإسلام بين المسلمين.