الإسلام دين سماوى لم يزل واحدا بركائزه وفروضه وعقيدته، ولكنه متعدد الألوان والهويات والتباينات بين البيئات والأزمان. إن من له قدرة على قراءة تاريخ الإسلام بشقيه الحضارى والسياسى، سيكتشف أن ما حدث من انقسامات كبيرة فى الإسلام، يعد ظاهرة لا يمكن لأى إنسان واعٍ تجاهلها.. والانقسام أمر طبيعى فى هذا الوجود، ونجده فى كل الديانات وظواهر التاريخ الكبرى، لكنه لم يأخذ له أى طابع سياسى.. إن من يضيف إلى قراءته التاريخية المعمقة وتأملاته، تعايشاته بنفسه جغرافيا فى المجتمعات الإسلامية اليوم قاطبة، فسيجد أن لكل مجتمع مسلم تفسيراته للإسلام، بل سنجد أن مواريث كل مجتمع تتباين عن تقاليد مجتمع مسلم آخر! إن الاختلافات السياسية هى أقسى ما أضر بالإسلام على امتداد تاريخه كله والتى اتخذت لها مذاهب وطرقا وطرائق وأساليب ومللا وفرقا وفروعا وطوائف.. إلخ، وإذا كانت المسيحية قد انقسمت هى الأخرى على امتداد ألفى سنة، فإن انقساماتها كانت عقدية دينية، فى حين أن انقسامات المسلمين كانت سياسية منذ منطلق الإسلام وحتى يومنا هذا، وعليه فإن كل ما نجده اليوم من مذاهب وطوائف إسلامية هى بقايا تاريخية لما حصل فى الماضى السياسى عند المسلمين، وإذا كانت هذه كلها تركة الماضى الصعب نحو الحاضر اليوم، فإن حاضرنا هذا نفسه وعلى امتداد خمسين سنة مضت جرت خلاله ولادة لانقسامات دينية سياسية منها ما تفاقم أمره عن مذاهب قديمة، ومنها ما ولد مستحدثا اليوم فى أزمة الصراع السياسى ضد العصر. هل من علم اسمه: الإسلام المقارن؟ علينا أن نعترف بكل جرأة وشجاعة بأن إخفاء أمر هذه الانقسامات سيضر بمجتمعاتنا ويبقيها متعامية عن حقائق موجودة على الأرض.. علينا أن نعترف بأن المسلمين فى عموم الدنيا اليوم لا يعرفون حقيقة المذاهب والفرق الإسلامية التى ولدت فى ظروف سياسية صعبة، ثم تشكلت اجتماعيا مع توالى السنين.. علينا أن نسأل: لماذا تنامت الانقسامات الدينية اليوم لأسباب سياسية وبأشكال مختلفة عما كان مألوفا على مدى ألف سنة مضت؟! لماذا ننكر اليوم وجود «إسلامات» متعددة فى مجتمعاتنا المسلمة؟ وهل يمكن دراستها علميا ونقديا وتربويا ضمن علم الإسلام المقارن بعيدا عن المدارس الدينية ورجال الدين؟! هل من المعقول أن تبقى مجتمعاتنا لا تدرك مصادر التحديات الداخلية التى تواجهها، كونها قد ألغت من ذاكرتها جملة هائلة من الحقائق، وإن وصلت إلى نقاط حرجة سياسيا وإعلاميا وفكريا، فهى تضيع، ولا تعرف ماذا تجيب؟ الانقسام المفصلى بين السنة والشيعة إذا كانت مجتمعات المسلمين قد عرفت المذاهب الإسلامية السنية: المالكية والحنفية والشافعية والحنبلية وغيرها، وميزت كل واحدة نفسها اجتماعيا فى بيئات ودول، فإن الأمر ينسحب أيضا على المذاهب الإسلامية الشيعية: الإسماعيلية والزيدية والجعفرية الاثنى عشرية والعلوية.. وغيرها، إذ تميزت هى الأخرى اجتماعيا كل فرع بتقاليده وتفاسيره فى بيئات ودول، وإذا كان الحنفية هم الأكثر عند السنة، فإن الجعفرية الاثنى عشرية هم الأكثرية بين الشيعة.. وإذا كانت المذاهب السنية قد اختفت مضامينها فى المجتمعات السنية، فإن المذاهب الشيعية لم تزل باقية حتى يومنا هذا، بفرز واضح فيما بين مرجعياتها.. وإذا كان الإسلام السنى قد عاش طرائق صوفية على امتداد ألف سنة، ثم تحدتها حركات مضادة للتصوف، وهى سياسية باسم السلف والإصلاح، فإن الإسلام الشيعى قد صادفته أيضا تطورات سياسية أثرت على حياته التاريخية. إن القرون الخمسة الأخيرة التى عاشها المسلمون فى عموم الدنيا.. هى بمثابة تاريخ انقسامى مرير للإسلام نفسه، ليس فى راهنه، بل حتى فى العودة إلى إحياء الانقسامات القديمة. هل من قراءة للفروقات بين الفرق الدينية وبقاياها؟ هل لأى مسلم اليوم أن يسأل: من هم الإباضيون؟ الدروز؟ العلويون أو النصيرية؟ المتأولة؟ اليزيديون؟ العلى آلهية؟ الكاكائيون؟ البهائيون والبابيون؟ البهرة داودية؟ الطيبيون؟ النزاريون والسبعيون والسليمانيون؟ أين هم الفاطميون اليوم؟ أين القرامطة؟ من هم الكاسانيون؟ القاديانيون؟ الأحمديون.. وغيرهم؟ ما سر بقاء أو اختفاء فروع وفرق ومذاهب؟ ولو فتحنا باب الطرائق الصوفية التى انتشرت فى المجتمعات الإسلامية منذ ألف سنة، فإن المقال لا يتسع أبدا لمجرد ذكر أسمائها. إن من يدقق طويلا فى مختلف العقائد التى تتضمنها مثل هذه الفرق والمذاهب، سيكتشف أن اختلافات واسعة تفصلها عن جوهر الإسلام الذى نعرفه! صحيح أنهم يقرأون كتاب الله بنصه الواحد، ولكن أقرأ تفاصيل تفسيراتهم للنصوص والتاريخ، فسوف تجد أن ثمة جدران فاصلة بين إسلام وآخر! من غير الصحيح أن نعيد ونكرر جميعا بأن لا تباينات أو اختلافات بين المذاهب والفرق والطوائف الإسلامية، ومجتمعاتنا لا تعرف بعضها بعضا، إذ وصلت درجات الاختلاف إلى طبيعة عقيدة كل طرف من الأطراف. التشظيات المعاصرة إننا اليوم أمام تشظيات أخرى ومن نوع آخر.. إنها انقسامات سياسية داخل البنية الإسلامية نفسها، بولادة أحزاب دينية يمثل كل واحد منها اتجاهه الخاص به، بل وتفسيره ورؤيته لما يسمونه ببناء الدولة الإسلامية، فكل طرف يسعى بتوجه سياسى معين وهو مغلف بضمانة دينية كى يتمكن من فرض قداسته على الآخرين! فمثلا لم يبق الشيعة الأثنى عشرية على مدرستى النجف وقم فى ريادة الاجتهاد، بل اختفلتا سياسيا منذ ولد مشروع ولاية الفقيه فى إيران على يد الإمام آية الله الخمينى ليأخذ له طريقا خاصا به فى الإسلام! وإذا كان المسلمون السنة قد وجدوا لهم مذاهب أيضا منذ القرن التاسع عشر كالمذهب الذى أظهره الشيخ محمد بن عبدالوهاب، فلقد أعقبه مذهب السنوسيين «الذى لم يبق له من أثر إلا النادر» ومذهب المهديين.. ولكن انبثق الإسلام السياسى من خلال جماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامى بتصلبهما السياسى.. ثم بدأت تتوالد الأحزاب والجماعات الإسلامية فى كل بيئة من بيئات العالم الإسلامى بأزياء مختلفة وطرائق متباينة يصل بعضها فى تشدده إلى حد نفى الحياة المعاصرة ويضمحل بعضها الآخر إلى حد التوفيقية مع الحياة المعاصرة.. وينتهى بعضها الآخر إلى انفتاح وانفلات لا تبيحه النصوص الشرعية! إننى أجزم أن ثلاثة إسلامات أساسية تتوزع اليوم فى منطقتنا: الإسلام الإيرانى والإسلام التركى والإسلام العربى، فإذا كان الإيرانى والتركى يختلفان اختلافا جذريا من حيث الرؤية والتفكير، فإن الإسلام العربى أجده متشظيا على أصعب حالة من التشظى «ولهذا الموضوع معالجة مستقلة قادمة». دعوة للمكاشفة بديلا عن التعتيم إن أغلب الجماعات الإسلامية «الفرق كما تسمى ماضيا، والأحزاب كما تسمى اليوم» هى متشددة سياسيا، وتستخدم الدين رادعا ضد الجميع.. إنها باستثناء الطرق الصوفية التى استلهمت فلسفاتها من الزهد، ثم اعتمدت العزلة بديلا عن الدنيا، وصولا إلى جعل بعض حركتها فى خدمة المجتمع لم تعمل فى السياسة أبدا.. وأن الحركات الأخرى اعتمدت الدين مرتكزا سياسيا لها من أجل الوصول إلى السلطة. إن كل هذه الأطراف جميعا تدعى بأنها تمثل «الإسلام الحقيقى» وأن غيرها مصنف فى أدبياتها وبياناتها كونه منحرفا وضالا عن الطريق السوى.. بل ويصل البعض لتكفير البعض الآخر ووصمه بالمروق عن الدين! منتجات الزمن المبهم لقد عاشت مجتمعات المسلمين أزمانا طويلة وهى تستلهم من فقه رواد المذاهب الإسلامية جملة أساليب فى تفسير النص، أو التفقه بإيجاد حلول لمشاكل شخصية واجتماعية.. لقد انتشر المذهب الشافعى فى أصقاع قارة آسيا كونه مذهبا مسالما.. وهكذا بالنسبة للمذهب الحنفى الذى امتد فى آفاق جغرافية واسعة.. ولكن أن تقوم أحزاب ومنظمات وجماعات بتطبيق الإسلام على أسس دموية وتنفيذ مآرب سياسية لا أول لها ولا آخر، فهذا ما يصطدم ليس بالعالم كله، بل ينخر فى مجتمعاتنا وتأجيج الصراعات الدموية فيها، كما يجرى اليوم! إن ما نشهده اليوم من احتدامات داخلية داخل العالم الإسلامى، وولادة جماعات إرهابية تؤمن بمشروعات القتل الجماعى، مهما كانت صناعتها، فهى محسوبة على الإسلام! وأن ما نشهده اليوم من حروب باردة إعلامية بين سنة وشيعة مثلا، وكل طرف يريد تسويق بضاعته على حساب زمننا ونهضتنا وتكويننا الحضارى فى هذا العالم الصعب، يعتبر ارتدادا مفجعا نحو العصور الوسطى. استنتاجات هنا دعونى أخاطب كل الناس الذين تتملكهم عواطفهم، ويخافون التفكير فى مثل هذه الموضوعات، وكأن ما جرى على امتداد تاريخنا، كان مقدسا.. أن يعيدوا التفكير فيما آلت إليه أوضاعنا على أيدى من اتخذ الدين سلما سياسيا نحو السلطة، وأقول لهؤلاء، أنه ليس باستطاعتكم أن تبنوا دولة دينية فى عصر المدنيات.. إنكم ستبقون منعزلين عن الدنيا وما فيها.. وستضطر مجتمعاتنا للأخذ بالمبادئ المدينة آجلا أم عاجلا.. إن كل ما تتسلحون به يتعارض مع المبادئ الحديثة! إن تجارب حكومات وأحزاب دينية قد ثبت فشلها اليوم فى أكثر من مكان وانهارت مؤسسات الدولة، وحلت التمزقات فى نسيج المجتمعات.