عن المركز القومي للترجمة يقدم لنا د. قاسم عبده قاسم هذا الكتاب إلي العربية لأول مرة. "نظرات جديدة علي الكتابة التاريخية" لبيتر بوركي أستاذ التاريخ الثقافي بجامعة كامبردج هو عنوان موحي وشيق لعشاق التاريخ المرنين، وفي نفس الوقت مقلق لأنصار القوالب الجامدة، «الذين يزعمون لأنفسهم الانتساب إلي المهنة التاريخية، وما عملهم سوي قص ولصق». أما المترجم وأستاذ تاريخ العصور الوسطي بجامعة الزقازيق فيمهد لنا موضوع الكتاب وفكرته قبل عرض ال12 بحثا في مجالات متعددة التي تشملها فصوله، وتعدنا جميعها بوجهات نظر جديدة في مجال الكتابة التاريخية والتفسير التاريخي. تضم فصول الكتاب رصدا أكاديميا لفروع جديدة من العلم التاريخي كتبها متخصصون واكبت دراساتهم التاريخية التغيرات التي طرأت علي العالم، وفي أوروبا وأمريكا الشمالية علي وجه خاص. والكتاب يرصد المرحلة الأخيرة من مراحل تاريخ التاريخ أو كتابة التاريخ وظهور الحاجة إليه عبر الأزمان، بدءا من القراءة الأسطورية للتاريخ وانتهاء بالقراءات ال12 الجديدة المنشورة بالكتاب الذي صدر بالإنجليزية في طبعته الثانية عام 2001 عن مطبعة جامعة كامبريدج. د. عبده قاسم يقول لنا إن المرحلة الحالية من تطور المعرفة التاريخية والفكر التاريخي ليست مقصورة علي الثقافة الغربية بشقيها الأوروبي والأمريكي كما يوحي الكتاب، أما هذا الخطأ فراجع إلي أن المحرر لم يستطع التخلص من المركزية الغربية، وعلي هذا الأساس يطالبنا المترجم بأن نطيع بشكل واع حقيقة أن التاريخ لم يصل إلي هذه الدرجة من التطور في جميع الثقافات المعاصرة. صحيح أن الثقافة الغربية أنتجت الأفكار والنظريات ووجهات النظر الرائدة في ميدان العلم التاريخي والفكر التاريخي والمعرفة التاريخية، نتيجة التقدم الذي يتمتع به الغرب، لكن هذا لا يعني أن الفكر التاريخي لدي الأمم الأخري قد كان متخلفا بل لنقل مختلفا أو مغايرا. نبدأ مع المترجم التماس أولي الخيوط المعرفة الإنسانية بعلوم التاريخ، أو ما يمكن تسميته ب"رحلة التاريخ"، فيحكي أن عملية التأريخ في بداية الأمر ولدت من رحم الأسطورة،. فمن يقرأ الأساطير الأولي يجد فيها كثيرا من التاريخ، ومن يقرأ الكتابات التاريخية المبكرة يجدها أجرأ الأساطير. ولهذا كانت المرحلة الأولي من القراءة التاريخية قراءة أسطورية، ركزت علي تبرير سلطة الملوك (الآلهة)، وكان بالخيال بذرة من الحقيقة التاريخية، وحيث إنه لم يكن هناك في الماضي تسجيل للأحداث، فكان الخيال تعويضا عن ضياع الذاكرة. أما شاغل تلك التواريخ الأساطير هو البحث عن الأصول الأولي للجماعات البشرية والأشياء والظواهر، فضلا عن أن وسيلة نقل المعرفة التاريخية في تلك المرحلة المبكرة كانت شفاهية، ومن هنا تعرض التاريخ لإعادة صياغة أكثر من مرة بحكم ما تتطلبه تلك الشفاهية من إعادة تفسير الحدث عبر الأجيال. من الحقائق الأخري عبر رحلة التاريخ، أنه بدأ مع وجود الإنسان وليس مع اختراع الكتابة، التي لم تسجل سوي شهادات تاريخية جزئية من وجهة نظر من كان بوسعهم استخدام الكتابة لخدمة أهدافهم، أي الحكام والقادة والنخب ورجال الدين، وكان التاريخ بهذه الطريقة مرادفا للسير. وينتقل سريعا إلي مراحل ثراء الفكر التاريخي، يقول المترجم أنه إذا سلمنا بأن التراث اليوناني الروماني علي يد هيرودوت الإغريقي كان هو أساس المعرفة التاريخية الأوروبية حتي العصور الوسطي، إلا أن د. قاسم ينحاز للعرب، ويري أن التراث التاريخي في إطار الحضارة العربية والإسلامية هو الأرقي والأعلي شأنا. فقد تقدم العلم التاريخي في رحاب الثقافة العربية الإسلامية، وظهر معه ما عرف ب"فلسفة التاريخ". مع حلول القرن الواحد والعشرين يخبرنا المترجم عن بداية اكتشاف ما عرف بعد ذلك في أوساط الباحثين ب"التاريخ المصغر". وهو بحسب عبده قاسم مجال مثير للجدل ولم يترسخ تماما بعد في مجال البحث التاريخي. أما سبب ظهوره فكان لمواجهة العولمة وأوهام نهاية التاريخ وصراع الحضارات. وازدياد الاتجاه نحو فروع جديدة من العلم التاريخي تهتم بالإنسان الفرد أو الجماعات الصغيرة، فضلا عن إعادة النظر في موضوعات قديمة مثل التاريخ السياسي والبيئي والجسدي والتاريخ الشفهي أو الشفاهي والتاريخ المرئي، وهي الظاهرة التي أطلق عليها المترجم "هجرة المؤرخين إلي أنواع جديدة قديمة من الدراسة التاريخية". يعرف الكتاب التاريخ البيئي بأنه التاريخ الذي ينشأ محصلة للتفاعل بين الإنسان والبيئة، ومرتاد هذا الميدان مثل ابن خلدون والمؤرخون الماركسيون يؤمنون بأن البيئة "مسرح التاريخ"، وفي النهاية يعد التاريخ البيئي تطورا طبيعيا للجغرافيا التاريخية، لاسيما أن عدوان الإنسان علي البيئة بات يهدد بنهاية "تاريخ الإنسان" نفسه. يسوقنا المؤلف إلي أقوي وأمتع البحوث التاريخية وهو ما يعرف ب"التاريخ من أسفل"، يعرفها الكتاب بعملية القراءة الشعبية للتاريخ، أي دراسة التاريخ من وجهة نظر صناعه الحقيقيين من عامة الناس والبسطاء، الجنود بدل قائدي المعارك. جيم شارب أستاذ التاريخ بجامعة يورك وصاحب هذه الدراسة يعرفنا بطبيعة عمل المؤرخ الذي يتناول التاريخ من أسفله ب: "منظور بديل لما نصطلح علي تسميه تاريخ الجالسين علي القمة"، أو "إنقاذ تجارب جماهير الناس من براثن الإهمال والنسيان". وقد شجع الباحثين علي هذا النوع من التاريخ تطور الحركات الجماهيرية خصوصا مع اندلاع الثورة الفرنسية، هذا علي الرغم من الصعوبات التي تلحق بدراسة التاريخ من أسفل، ومنها صعوبة توافر الأدلة والبراهين كمصادر للتأريخ. هناك مجال جديد آخر في الدراسات التاريخية يعرف باسم "تاريخ ما وراء البحار"، وهو يخرج عن المركزية الأوروبية ويتناول كل ما هو خارج أوروبا، وهو فرع مشابه إلي حد كبير مع ما يطلق عليه "التاريخ الإمبريالي" أو "التاريخ الاستعماري"، أما دراسة هنك ويسيلنج أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة ليدن والتي تتناول ذلك الفرع من التاريخ فتكشف عن حقيقة مثيرة، هي أن الأوروبيين اضطروا للاعتراف بأن التاريخ كان موجودا في أفريقيا وآسيا وغيرها من المستعمرات التي وصمتها العنصرية الأوروبية بأنها "مناطق غير تاريخية". يرفض المترجم، أو يجد بعض السقطات في أبحاث بعنوان "تاريخ المرأة" أو "تاريخ النوع" و"تاريخ الجسد"، ويجدها جميعها فروعاً "مصطنعة" في الدراسات التاريخية. لأن التاريخ في نظره فعل إنساني يقوم به البشر ذكورا وإناثا، وليس لكل واحد تاريخ منفصل، كما لا يمكن تصور أن الجسد كائن مستقل بذاته، ويستنكر د. قاسم علي روي بوتر أستاذ تاريخ الطب الاجتماعي بجامعة لندن وصاحب دراسة "تاريخ الجسد" حديثه عن "الجسد اليهودي" متسائلا: هل الجسد يكتسب ملامح وخصائص تكشف عن دين صاحبه؟!