عندما صدر قرار تعييني معيداً في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية سافرت مسرعا إلى القاهرة لإنهاء إجراءات التعيين، ذهبت إلى إدارة شئون الطلاب وكانت تديرها سيدة عظيمة اسمها مدام ناهد، وكنا نحبها لانها تعاملنا جميعا على أرقى ما يكون التعامل الإنساني، وكانت سعيدة جدا بنجاحي وتوفقي، وما إن علمت أنه قد تم تعييني معيداً حتى ثارت، وغضبت غضباً عارماً، لان تعييني خطأ كارثي..هنا اسودت الدنيا في وجهي، وأيقنت أن مصيري الشارع، أو العمل في مجلس مدينة سوهاج، أو في قريتي مدرساً، لان الخارجية مغلقة في وجه أمثالي من غير اللائقين اجتماعيا من أبناء الفلاحين الذين لا يملكون الأراضي والعقارات، ولا توجد لديهم الواسطة التي تليق بالمقام الدبلوماسي.. وسألتها.. هل هناك خطأ في احتساب الدرجات، فقالت لا.. الدرجات صحيحة، ولكن التعيين كمعيد فقط للمصريين، وانت ليبي ولست مصريا. فأكدت لها أنني مصري، ولكني صعيدي، وحينها طارت فرحا، وأنهت جميع إجراءاتي في الحال. سؤال يراودني دائما.. ما هي درجة مصرية أبناء الصعيد؟ هل نحن فعلا في أعين حكومات الشمال مصريون على نفس الدرجة مثل أبناء القاهرة والدلتا؟ هل نحن أبناء هذا الوطن، أم اننا ولدنا مبتسرين على سبعة شهور؟ هل نحن أبناء سارة أم ابناء هاجر الجارية القبطية؟ هل وجود الدم الأفريقي في عروقنا يضعنا في درجة أقل ممن نالوا شرف الدم الإغريقي والروماني والتركي والشركسي، والفرنسي والبريطاني؟ هل لأننا سمر وملامحنا ليست بنفس درجة جمال أهل الشمال، ولسنا في نفس درجة شياكتهم، وتأنقهم، وذوقهم المتحضر، فنصيبهم بالعار والشنار، ويريدون عزلنا والتخلص منا؟ أسئلة كثيرة تراودني منذ زمن بعيد، وحين خدمت في أكاديمية ناصر العسكرية عرفت أن التوزيع الجغرافي للمجندين من كل مصر يختار أبناء الصعيد للمنطقة المركزية، وكذلك لأشرس فرق الجيش والأمن المركزي، وأيقنت حينها أننا أبناء مصر، وجيشها يثق فينا، ويأتمننا على أغلى ما عنده، وأخطر أهدافه الاستراتيجية، وفرحت بهذه الثقة الغالية، ولكن كلما أنظر إلى الحكومات يصيبني الحزن، والغضب؛ فهي دائما تعاملنا كأننا تحت الاحتلال، مشاركة أبناء الصعيد في حكم مصر نادرة، بل لا يحكمون أنفسهم، إذن عادة ما يكون المحافظ من الشمال، ومدير الأمن من الشمال، ومأمور القسم من الشمال، وضباط المباحث وأمن الدولة من الشمال، وغالبا لا يعرفون الكثير عن ثقافتنا. وعندما جاء الإخوان تكرر نفس السيناريو، لأن تنظيم الإخوان ذاته تنظيم مدني شمالي، إذ نادرا ما يكون فيه قيادي من أهل الصعيد، وكانت حكومة الإخوان مثل حكومة من قبلهم، وسمعنا كلاما عن تنمية الصعيد، وعلى مدى عام أعاد الرئيس الأسبق مرسي افتتاح قناطر اسيوط التي بدأ العمل فيها منذ عشر سنوات، ثم جاءت حكومة الرئيس السيسي وسمعنا كلاما جميلا عن الصعيد وتنمية الصعيد، والفقر المدقع المنتشر في الصعيد، ولكن كانت المشروعات الكبرى، كالعادة من نصيب الشمال، من قناة السويس، إلى ميناء دمياط، والعاصمة الجديدة، وكان نصيب الصعيد الكلام. حقيقة عودتنا التجربة والتاريخ، وتعلمنا الثقافة والقيم أن نذوب حبا في مصر، وأن نكون أول من يفديها بالروح والدم، وعودتنا على الصبر، وعدم التسرع، وعدم الغضب، وعودتنا على الاعتماد على الذات، فمدارسنا بالجهود الذاتية، والمعاهد الأزهرية بالجهود الذاتية، والمساجد بالجهود الذاتية، حتى توصيل المياه والكهرباء معظمه بالجهود الذاتية، ونحن سعداء بالعطاء لمصر، لأن الصعيد وأهله كما قال المفكر المصري لويس عوض: هم المخزون القيمي لمصر، كلما تراجعت قيمها أمدها الصعيد بقيم تبعث فيها الحياة. ولكن لماذا دائماً يضحكون علينا بالكلام، هل لاننا حسنو النية نشتري العتبة الخضراء، والترام، وتمثال رمسيس من أي نصاب قاهري؟ أم لأننا أخرجنا لمصر أهل الفكر، والفكر كلام؟ لماذا تتكرر نفس الوعود ولا تتحقق، هل هي لعنة الفراعنة أصابت الصعيد وأهله؟ أم لأننا بعيدون عن العين، ولذلك بعيدون عن القلب؟ أغضبني إلى حد الانفجار ما حدث الاسبوع الماضي من تمييز وتفرقة وقحة من الحكومة والإعلام بين حادثي الكوامل في سوهاج وهي بلدي، وحادث البحيرة، الأول: كما نشرت الوفد أمس الأول، كان مجرد خبر، وكأنه وقع في بوركينافاسو، والثاني تحركت له جميع أجهزة الدولة، من الجيش إلى الشرطة، والإعلام وحتى سيادة الرئيس، وطائرات حربية ومستشفيات، بينما ابناؤنا في سوهاج تركوهم لمصيرهم المحتوم في تجاهل فاجر، وللاسف المطار كان أقرب لحادث سوهاج منه لحادث البحيرة، وكانت الطامة الكبرى أن طالبات الجامعة في سوهاج سعرهن عند الحكومة ألفين من الجنيهات، وهن أغلى من كنوز الدنيا، وطلبة وطالبات الثانوية في البحيرة السعر خمسون ألف جنيه وهم أغلى من كل مال الأرض، وكما درست في الفقه فإن دية القتيل الحر هي فقط ضعف العبد، فهل ابناء الصعيد في نظر الحكومة عبيد بخمسة وعشرين ضعفا، رغم أني أرفض أن تتم التفرقة بين الناس إلى حر وعبد، وكل هذا الفقه تقاليد تاريخية لا علاقة لها بالدين. رحم الله أبناءنا في البحيرة وفي سوهاج وفي كل بقاع مصر الغالية، وأنزل الصبر الجميل على قلوب الأمهات والأباء، لا تعليق على الحكومة.