منذ 49 عاماً وتحديداً الساعة السابعة صباح الثالث والعشرين من شهر أغسطس 1965 فوجئت بعد وصولى إلى مكتب دار أخبار اليوم من سكرتير محافظ الإسكندرية حمدى عاشور والذى كان رمزاً وطنياً لا يتكرر كثيراً. .يبلغنى أن أحضر فوراً إلى عنوان إحدى الفيلات فى منطقة لوران لتغطية خبر مهم يتطلب تواجدى ومن باب الاحتياط طلبت من أحمد سالم كبير مصورى أخبار اليوم الحضور مبكراً إلى المكتب قبل أن نتحرك إلى العنوان. وقبل أمتار من العنوان قال لى أحمد سالم «بيت النحاس باشا.. يبقى فيه حاجة» هكذا تحركت حاسة التوقعات الصحفية قبل أن ننزل من السيارة وكانت كاميرا أحمد سالم الذكية قد مسحت بعض لقطات المكان وعلى الباب وجدنا شخصية سكندرية معروفة هو زعيم شباب الوفد المرحوم محمد الرشيدى مدير الثقافة ببلدية الإسكندرية يبكى كالأطفال بكاءً شديداً ويلطم خدوده واندفعت إلى داخل الفيلا فوجدت حمدى عاشور المحافظ لكن لم يكن هناك على الباب أى أثر أو علامة تفيد بوجود المحافظ فى المكان حيث قام السائق بركن السيارة فى شارع جانبى و كان يقف إلى جواره النقيب فادى الملاح من شرطة المرافق الذى أصبح فيما بعد (الدكتور فادى الملاح بعد حصوله على الدكتوراة فى القانون) ووجدت المشهد كأنه غرفة عمليات.. المحافظ أرسل قائد شرطة المرافق ولا أذكر إذا كان العميد خليفة محمود أو العميد مصطفى حسين بك ويقف إلى جواره الدكتور محمود العمروسى وكيل وزارة الصحة وطبيب الصحة بمنطقة الرمل وكانت المفاجأة أيضاً وجود المستشار محمد عبد العزيز الجندى، والذى قطع أجازته القضائية بناء على اتصال تليفوني من المحافظ مع المستشار محمد عبد السلام النائب العام و قتها لكي يوفد مندوبا عن النيابة العامة لكي يحضر عملية توقيع الكشف الطبي على الزعيم مصطفى النحاس باشا ويوثق شهادة الوفاة لكي يكون لها حصانة من النيابة خاصة وأنه سينتقل من الإسكندرية إلى القاهرة ومن الجائز تعرضه لأى إجراء استثنائى أو خطف.. وقال المحافظ بلهجة حاسمة «النحاس باشا انتقل إلى رحمة الله ورغم أننى لست وفدي الهوى أو حتى الانتماء إلا أننى أحسست برهبة شديدة وأنا أتلقى وقع الخبر من حمدى عاشور وعرفت منه أن الرئاسة عرفت بالخبر حيث أن الرئيس جمال عبد الناصر وقتها كان فى زيارة للمملكة العربية السعودية فى فترة من أحوج لحظات العلاقات بين البلدين بسبب حرب اليمن. وقال لى المحافظ: اوعى تصور هنا خاصة زينب هانم يقصد (السيدة زينب الوكيل) التى كانت تقف فى الدور الثانى بجوار جثمان الزعيم وتبكى بكاءً مراً وبجوارها كما عرفت فيما بعد المرحوم عبد الفتاح الوكيل وهو شقيقها وعدد لم أستطع التعرف على وجوههم لرهبة الموقف.. وقد كانت هذه أول مرة فى حياتى أقترب من جسد الزعيم الجليل حيث أن أول مرة شاهدته فيها فى ميدان محطة مصر حيث احتشد الآلاف ليستمعوا إليه عام 1951 وهو يساند مرشحى الوفد وقتها كان يركز فى حديثه الأبوى الذى يلهب المشاعر نحو الوطن و يزكى و يساند الدكتور محمود محفوظ رئيس قسم أمراض العيون لطب الإسكندرية (الرمد سابقاً) والمحامى الشاب إبراهيم طلعت وقد استطاع الوفد بكوادره أن يسقط أمام مرشحه الدكتور مرسى بدر وزير العدل المصرى ونفس السيناريو إبراهيم طلعت الذى لم يكن وفدياً وجاء من حزب راديكالي هو حزب مصر الفتاة وتحت مظلة الوفد فاز على الدكتور المراغى باكتساح رغم أنه ليس من أبناء الدائرة فهو من منطقة الحضرة.. وجاء به الوفد ليكون نائباً لكرموز أى من وسط الإسكندرية إلى غربها؟! هذه الذكرى استرجعتها خلال ثوانى وأنا أرى جثمان الزعيم الجليل مسجى.. المهم أننى احترمت رغبة حمدى عاشور وطبيعى فإن أحمد سالم المصور المخضرم والذى لم يأخذ حظه من العالمية كان أسرع فى فهم واستيعاب هذه اللحظة التى يتخلى فيها الصحفى عن متطلبات المهنة وشهوة الانفراد إلى التزام أكبر وأوسع وأسمى وأرفع وهو الالتزام الأخلاقى؟! المهم أن حمدى عاشور وقال لى أن أسأل فى الجريدة عندكم.. هل نقوم بإحضار علم مصر (على التحرير) لكى نغلف به جثمان الزعيم و شعرت أن السؤال ملغوم و خطير و يفوق كثيراً تقديرات صحفى فى مقتبل الحياة و لم يمض مع عملى بالأخبار سوى ثلاث سنوات فقط.. ربما سمح لى أستاذ مصطفى بك أمين رحمه الله.. وضاعف من مخاوفى إنه لم تمض أيام على القبض على أستاذنا الكبير مصطفى أمين فى اسناد باطل لم يحصنه حكم قضائى عادى وقد انعكس الأمر على نفسية من عرفوه من تلاميذه بل وصلت معنوياتنا الإنسانية والمهنية إلى الحضيض وتجزر الشعور داخلنا بالظلم، وقد أدرك المحافظ الذي أشهد أنه كان يتميز بالتحرر فى أرائه وبالجرأة أيضاً.. المهم أن الرجل طلب إلىّ استطلاع رأى مسئول كبير فى (الأخبار) حول فكرة «احتضان علم مصر لجثمان الزعيم» فقد اعتاد حمدى عاشور دائماً حينما يكون هناك حدث مهم أن يستطلع رأى كبار الصحفيين وحدث هذا حينما قابلته فى أوائل 1964 وأبلغنى أن مؤتمر القمة العربى الذى سيعقد بقصر المنتزه يتطلب إجراءات تأمينية حيث صدر قراراً بهدم مدرسة الأميرات وإقامة فندق مكانها ليكون مقراً لإقامة الملوك والرؤساء العرب بالإضافة إلى شاليهات تخص كل رئيس دولة وطلب إلىّ وقتها أن أسأل مصطفى بك أمين عن الاسم المقترح لهذا الفندق فإذا بأستاذنا الكبير مصطفى بك أمين يقول لى بلغ حمدى بك أن يكون اسمه (فندق فلسطين) حيث أن دورة القمة ستناقش القضية الفلسطينية وعلى الفور اتخذ المحافظ قراره بتسمية الفندق الذى لا زال حتى اليوم أحد معالم السياحة المصرية. وكان الوقت غاية فى الصعوبة.. المهم أننى طلبت وقتها أستاذى المرحوم أحمد زين أسطورة الصحافة المصرية التى لم تأخذ طريقها القيادى الإدارى وكان رحمه الله يختصنى برعاية مهنية وأبلغته أن حمدى عاشور يريد التحدث معه وتركت السماعة للمحافظ بل تركت الغرفة كلها أنا وزميلى أحمد سالم احتراماً لخصوصية المكالمة.. وفوجئت بأن المحافظ يتصل فوراً بمحمد على رشيد سكرتير عام المحافظة (المحافظ فيما بعد) ويصدر تعليماته بإحضار علم مصر وعدة سيارات كانت خلال أقل من ربع ساعة أمام الفيلا.. وترك المحافظ سيارته رقم (1) ملاكى إسكندرية لكى تستقلها زينب هانم الوكيل بعد أن تم رفع العلم الرسمى الذى كان يوضع فى مقدمة سيارات المحافظين و كبار القادة فى الجيش و الشرطة وأمر النقيب فادى الملاح أن يرافق الجثمان وكان التخطيط هو ضمان أكثر وقت لتكتم الخبر وحجبه عن الصحف أو الناس لمدة ثلاث ساعات على الأقل لضمان وصول الجثمان إلى القاهرة و كنت قد تعهدت أدبياً للمحافظ أننى لن أقدم الخبر للجريدة وتفاصيل ما شاهدت إلا فى تمام الساعة الواحدة ظهراً والتزمت بذلك وقد استطاع هو بحكم خبرته فى الشئون العامة للقوات المسلحة أن يخفى الخبر هذه الساعات ويتكتم التفاصيل لدرجة أن إذاعة لندن أذاعت الخبر فى الساعة الثانية بعد الظهر و كان هذا هو الهدف.. وربما اختصنى بها لأنه يرتبط بروابط صداقة مع قادة دار أخبار اليوم التى كانت تختلف سياسياً مع الوفد وقت صدورها لكن لا يوجد اختلافات على مكانة النحاس باشا رحمه الله؟! وتم عمل خطة تمويه حيث تم تسفير سيارة إسعاف كبرى تحيط بها سيارات شرطة بما يوحى أنها تحرس شىء ما داخل سيارة الإسعاف وتم التنبيه على السائق بألا يقف لأى من يعترض خط سير السيارة وشدد ذلك السيد رئيس الدكتور العمروسى وكيل وزارة الصحة وسارت السيارة فى الطريق الزراعى الذى لا زال وقتها هو الطريق السريع .. أما جثمان النحاس باشا فقد انتقل عبر الطريق الصحراوى وهو طريق ذهاب وإياب (مفرد) واحتضن العلم المصرى الرسمى جثمان النحاس باشا وخلفه سيارة المحافظ تستقلها زينب هانم الوكيل وباقى السيارات لأفراد الأسرة. والغرض من هذا السرد أن فى هذا الاحترام الذى أحيطت به المراسم التى اتبعت بعد أن لبى الزعيم الجليل نداء ربه فرضها تاريخه البطولى الذى لا ينكر فهو الشخصية النادرة التى لعبت دوراً محورياً فى تاريخ النضال الوطنى كرجل دولة.. وكزعيم أمة.. وقد اقتربت إنسانياً منه فى أوج زعامته.. ولحظة رحيله.. لكنى اقتربت أكثر أكاديمياً من خلال محاضرات قيمة كان يلقيها علينا أستاذ الأجيال وعميد أساتذة التاريخ الحديث الدكتور محمد محمود السروجى الأستاذ بجامعة الإسكندرية والذى كانت تربطه علاقة أكاديمية مع الزميل الكبير الراحل الأستاذ جمال بدوى رئيس تحرير الوفد. أما مصطفى النحاس باشا رحمه الله كان السياسى الوحيد فى العالم الذى استطاع بحكمته السياسية إجراء مصالحة وطنية فى الهند حتى قبل وقتها إن النحاس باشا هو أستاذ فى السياسة لغاندي وأستاذ جواهر لال نيهرو وإنه السياسى الوحيد الذى استطاع أن يجمع بين الذين يعبدون البقرة وبين الذين يذبحونها؟! عرفت أن مصطفى النحاس باشا ألغى معاهدة 1936 التى وقعها وحدد يوم 18 يونيو 1956 موعداً لجلاء القوات الإنجليزية عن القناة والذى يعرف حالياً بعيد الجلاء .. وأعاد تنظيم القوات المسلحة.. وألغى منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة واستطاع أن يجرد الملك فاروق من سلطاته الإشرافية على الجيش فضلاً عن الإصلاحات التى أدخلت على قوانين العمل ولجان التوفيق الحد الأدنى لأجور العمالة الزراعية و إعادة نشاط النقابات العمالية والإصلاحات التعليمية و إنشاء جامعة فاروق التى اختار لها عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين أول مدير لها.. وقانون استقلال القضاء وعدم قابلية القاضى للعزل ووضع قواعد ثابتة لنقلهم وإنشاء مجلس أعلى للقضاء واستبدال رؤساء المحاكم العسكرية بقضاة مدنيين ومستشارين. فضلاً عن تشريعات حماية رجال الشرطة من العزل والنقل ورفع مرتباتهم وإنشاء ديوان المحاسبة الحارس على المال العلم.. وإنشاء الجمعيات التعاونية.. ومجانية في التعليم وضمانات حرية الصحافة. وعلى الدور العربى فقد كان للنحاس باشا الفضل فى إعلان بروتوكول قيام الجامعة العربية فى قصر أنطونيادس بالإسكندرية عام 1944.. نعود إلى الجنازة فقد سرى الخبر فى مصر كالهشيم فى النار وخرج الفلاحون من قراهم.. ونزل الشعب إلى الشارع وانطلق الطوفان وهتفت مصر كلها إلى جنة الخلد يا نحاس.. عشت زعيماً ومت زعيماً.. ماتت الزعامة من بعدك يا نحاس.. أشك الظلم لربك يا نحاس.. والفريد أن العقلية السياسية القيادية كانت تفتقر إلى الحكمة التى تميز بها محافظ مثل حمدى عاشور فإذا بالرئاسة تقرر إبقاء الدكتور نور الدين طراف وزير الصحة مندوباً عن الرئيس رغم أن هناك خلافات سياسية قديمة وعميقة بين الوفد ونور الدين طراف ما تمثله من اتجاه سياسى مما أشعل الموقف وأصدر قرار باعتقال عدد من رموز الوفد منهم على ما أذكر الزعيم محمد عيد المحامي والأستاذ حافظ شيحة عضو البرلمان الأسبق، والأستاذ على سلامه ومن الإسكندرية صلاح نظمى وشقيقه محمد نظمى وغيرهم من الرموز الوطنية الذين ظلوا فى غيابت المعتقلات حتى أفرج عنهم عقب هزيمة يونيو 1967. ما حدث لم تكن مجرد جنازة .. لكنها كانت طوفانا شعبياً.. يؤكد الثقة فى زعامة النحاس.. وكما قال المفكر الكبير الأستاذ خالد محمد خالد وقتها لقد رأيت النحاس باشا فى حياه خطيباً مفوهاً، لكنى أراه اليوم فى مماته أخطب منه فى حياته!