كما كان متوقعا، انطوى حديث الرئيس «عبد الفتاح السيسي» عن سد النهضة فى خطابه المهم فى قصر القبة، على إشارات واضحة عن سياسة مصرية جديدة ليس فحسب لمعالجة هذه المشكلة، بل أيضا تقديم رؤية شاملة عن علاقة مصر بالقارة الأفريقية، تمتلك البصيرة الثاقبة لتحديد أولويات اللحظة، والمعرفة القادرة على رسم السياسيات التى تتوافق معها، والحكمة والحصافة بما يفتح باب الأمل لصون الأمن القومى المصرى، وحماية مصالحه، بتقديم دبلوماسية لغة الحوار والتفاهم،والتلاقى، بديلا للغة الصدام والمواجهة والتباعد. لغة جديدة يحملها الخطاب الرسمى المصرى فى التعامل مع القارة الإفريقية، بعد عقود من التجاهل والاهمال، والاستهانة بحجم المخاطر التى ترتبت على هذا التجاهل، الذى أخذ فى التزايد والتعقيد،منذ منتصف تسعينيات القرن الماضى ،وبعد محاولة الأغتيال الفاشلة للرئيس الأسبق حسنى مبارك فى العاصمة الأثيوبية أديس أبابا في صيف عام 1995، وما أعقبها من تداعيات خفضت مستويات التعامل المصرى مع قادة القارة الأفريقية من الرؤساء إلى الوزراء والخبراء، وسهلت لدى هؤلاء القادة إدانة السياسة المصرية بالاستعلاء على دول القارة . وبرغم التحذير الذى أطلقه فى بداية ثمانينيات القرن الماضى الدكتور «بطرس بطرس غالى» أحد أهم الخبراء الدوليين فى الشئون الأفريقية، من أن معارك المياه ستكون هى المعركة الكبرى فى منطقتنا خلال أعوام وجيزة، فقد تم تجاهل هذا التحذير، وبالغت السياسة المصرية فى تناولها لملف المياه، فى الاعتماد على أن حقوق مصر التاريخية المكتسبة من المياه يصعب على أى طرف أن ينازعها عليها، لأنها حقوق تحميها الاتفاقات الدولية، بالاضافة إلى الركون إلي أن الدول الواقعة على منابع نهر النيل ليست لديها الامكانيات المالية والفنية التى تساعدها على بناء سدود جديدة على مجرى النهر، وحتى بفرض صحة كل هذا، فقد غاب عنه الإدراك الضرورى لطبيعة المتغيرات التى طرأت على الساحة السياسة الدولية، وجعلت من دول حوض النيل الأفريقية مسرحا للصراع الدولى، تتبوأ فيه الولاياتالمتحدةالأمريكية ، وحليفتها اسرائيل مركز الصدارة، وفى هذا السياق تم قبل نحو اكثر من سبع سنوات انشاء القيادة العسكرية الأمريكية فى إفريقيا على منابع النيل، المعروفة إعلاميا باسم «أفريكوم» بزعم محاربة الإرهاب الدولى فى الصحراء الأفريقية، ولتسهيل امتلاك الولاياتالمتحدة للقدرات اللازمة للتعامل مع الازمات المختلفة والمحتملة التى تنشب فى بلدان القارة الإفريقية. أما اسرائيل التى استعادت العلاقات الدبلوماسية مع دول منابع النيل فى أعقاب توقيع المعاهدة المصرية -الإسرائيلية، فقد ساهمت بالخبرة والأموال فى تنفيذ عدد من المشاريع التنموية فى تلك الدول، كما شاركت فى بناء عدد من السدود الإثيوبية، فى مقابل قيام إثيوبيا بترحيل يهود الفلاشا إليها عام 1989. توترت العلاقات المصرية – الإثيوبية فى السنوات الأربع الأخيرة على وجه الخصوص،إذ شجعت أثيوبيا دول منابع النيل على التوقيع على اتفاقية عنتيبى، وعلى المطالبة بإعادة النظر فى اتفاقيات تقاسم مياه النهر، وعدم الالتزام بالحقوق التاريخية المكتسبة التى تضمنتها اتفاقيات عامى 1929و1959 وحددت حصة مصر من مياه النيل، كما قادت اتجاه الرفض لدى دول المنبع للاقتراحات المصرية كى تتضمن اتفاقية عنتيبى بندين يتمثل الأول فى ضرورة الإخطار المسبق عن إقامة أى مشروعات لدول المنبع على النهر،بينما ينص الثانى على أن تصدر جميع القرارات الخاصة بتعديل اتفاقيات تقاسم مياه النهر بالإجماع وليس بالأغلبية، ومضت إثيوبيا قدما فى تنفيذ مشروع سد النهضة برغم تأكيدات الخبراء المصريين والدوليين بإثاره الكارثية على حصص مصر من المياه، فضلا عن أضراره البيئية المحتملة، بالاضافة لفشل جولات المفاوضات المختلفة للتوصل لحلول وسط تخدم الطرفين المصرى والإثيوبى بشأن بناء هذا السد. ولأن إدارة الأزمة فى القاهرة قد تراوحت بين البطء والتراخى والاستعداد العلمى والعملى لمواجهتها وبين التلويح باستخدام القوة، فقد تفاقمت الأزمة فى العلاقات بين مصر واثيوبيا ووصلت إلى ذرا غير مسبوقة من التدهور، ولعبت الحملات الصحفية والإعلامية غير المسئولة دورا بارزا فى هذا السياق ، بما انطوت عليه من عدوان ، وتأجيج لمشاعر الكراهية حتى بين الشعبين، وانتقادات حادة للسياسة المصرية التى تتعامل بضعف وخنوع مع مشروع هذا السد، ولا تلوح باستخدام القوة لوقف تنفيذه! جاء خطاب الرئيس «السيسى» ليعدل الأحوال المائلة، ويعيد الأمور إلى نصابها، فمصر كما قال هى رائدة تحرر واستقلال القارة الأفريقية، مضيفا.. و«أننى أقول لمن يحاول فصلها عن واقعها الأفريقى، لن تستطيع فصل الروح عن الجسد، فمصر أفريقية الوجود والحياة» وادراكا منه للروابط التاريخية العميقة بين مصر وإثيوبيا، والتى تعود جذورها إلى مصر الخديوية، فقد أعلن بشكل حاسم أنه لن يسمح «لموضوع سد النهضة، ان يكون سببا لخلق أزمة أو مشكلة، أو أن يكون عائقا أمام تطور العلاقات المصرية سواء مع أفريقيا أو مع اثيوبيا الشقيقة، فإن كان السد يمثل لإثيوبيا حقها فى التنمية فالنيل يمثل لنا حقنا فى الحياة، وعلينا ان نعمل ليصبح واحة للتنمية والتعاون فيما بين دول حوضه». بعث حديث الرئيس عن السياسة المصرية التى سيتبعها لمعالجة قضية المياه، وعن «إثيوبيا الشقيقة» الروح من جديد فى العلاقات المصرية – الإثيوبية، وما كادت تمضى بضع ساعات على انتهاء خطابه، حتى استقبل وزير الخارجية الإثيوبى «تيدروس ادهانوم» فى باكورة اعماله الرسمية، وهو اللقاء الذى انتهى بالاتفاق على استئناف الحوار المجمد فى اللجنة الثلاثية التى تضم كلا من مصر وإثيوبيا والسودان بشأن سد النهضة، وبالإعلان عن لقاء قمة خلال أيام بين الرئيس «السيسى» ورئيس الوزراء الإثيوبى «هايلى ماريم دسالين» فى غينيا الأستوائية، وبدعوة مصر لحضور القمة الأفريقية –الأمريكية،وبقرب الغاء تجميد عضوية مصر فى الاتحاد الأفريقى، ووصول دعوة للرئيس المصرى المنتخب لحضور القمة الأفريقية المقبلة، وتأكيد وزير الخارجية الأثيوبى قبل مغادرته القاهرة، أن هناك اتفاقا بين الطرفين على تنمية صيغة الربح والمنفعة المشتركة للطرفين، والارتقاء بعلاقات الشراكة بين البلدين إلى مستويات أعلى فى كافة المجالات كى لا تقتصر على قضية المياه. صفحة جديدة تفتح فى العلاقات المصرية –الإثيوبية تمهد لحوار مسئول بعيدا عن اجواء الشحن والتحريض والعدوان لتقريب المسافات بين البلدين والشعبين ،وحل الخلافات بينهما بما يحفظ لكل طرف حقوقه، وهى مرحلة جديرة بأن يساندها الإعلام بكل مايمتلك من قوة وقدرة على التأثير.