لا ينبغى لنا أن نتوقع نجاحًا فيما ننشده من دولة ديمقراطية حديثة حقيقية، ما لم نتخذ من صحيح الممارسة الديمقراطية منهجًا وسبيلًا، دون الاكتفاء بترديد ما حملته الثورة المصرية من شعارات براقة، تعجز عن ملاحقة الطموحات الشعبية المشروعة، فى ظل تباطؤ الخطى نحو إحداث تغييرات جذرية جادة، تعبر عن جوهر الإرادة الشعبية الحرة التى نالت من الشهرة الدعائية، أكثر مما نالته على طريق التطبيق فى محاور شتى من حياتنا السياسية. فلا شك فى جدارة الأحزاب السياسية فى التعبير عن التعددية السياسية كسمة رئيسية للممارسة الديمقراطية السليمة، وفق ما أسفرت عنه التجارب المماثلة لما يحدث فى مصر من عملية تحول ديمقراطي؛ ولذلك يشير الدرس التاريخى إلى تزايد أعداد الأحزاب السياسية عقب الثورات الشعبية، وباتجاه الأوضاع نحو الاستقرار تتقارب الرؤى السياسية الوطنية، وسرعان ما ينعكس ذلك فى صورة اندماجات تجمع بين الأحزاب ذات الأرضية السياسية المشتركة، وهو ما لا يمكن للتجربة المصرية معاداته متى سارت فى الاتجاه الصحيح؛ ومن ثم فإن الإشارة الدائمة إلى كثرة أعداد الأحزاب السياسية الحالية فى مصر لا تأتى على أسس معرفية سليمة قدر ما تشى برغبة فى استمرار حملات التشويه التى تتعرض لها الأحزاب السياسية. ويشير ذلك بالقطع إلى جدارة الأحزاب السياسية فى التعبير بصدق عن الحالة المجتمعية التى تفرزها الثورات الشعبية، وما تتيحه عمليات التحول الديمقراطى من تفاعلات مجتمعية، نجد صداها فى مكونات المشهد السياسي؛ ومن ثم فإن قوة الأحزاب تعد دلالة قاطعة على حيوية الحياة السياسية، وما تذخر به من حركة تدفع بالمجتمع نحو الأخذ بمعايير الحكم الرشيد، وليس من شك فى مجابهة بقايا نظام مبارك، وقد أسقطته ثورة يناير، لكل عمل مؤسسى من شأنه استنهاض الروح الثورية، والحفاظ على مكتسباتها. وفى ظل صدق السعى نحو بناء نظام ديمقراطي، فإن ضعف الأحزاب السياسية كان جديرًا بالبحث فى أسبابه وعلاجها، دون الاكتفاء بالإشارة المتكررة إلى ما بها من وهن بقصد استثارة الرأى العام ضدها، بوصفها كائنات سياسية تُفرق ولا تجمع، فيما يتم تجاهل ما قدمته الأحزاب السياسية من جهد وطنى مخلص فى سبيل التخلص من الحكم الإخوانى البغيض، بعد أن أتاحت لها ثورة يناير مساحات لم تكن ممكنة فى ظل نظام مبارك المستبد. من هنا فإن حزب الوفد يرفض مشروع قانون الانتخابات البرلمانية، الذى تم الانتهاء من إعداده على ما يخالف رؤى ومواقف الأحزاب السياسية، حاملة لواء الثورة، والتى تم التعبير عنها بصدق في ما عقد من حوارات مجتمعية مع مؤسسة الرئاسة، حيث رأت الأحزاب الأخذ بالمناصفة بين النظامين الفردى والقوائم، فى حين جاء مشروع القانون مرجحًا للنظام الفردى بنسبة 80%، مشيرًا إلى تصاعد مشروعية المخاوف من عودة نظام مبارك الفاسد. والواقع أن مشروع قانون الانتخابات البرلمانية سيدفع بنا باتجاه مضاد لتوجهات الثورة المصرية، ولجوهر العملية الديمقراطية. ولو أننا اكتفينا بالأثر السلبى للنظام الفردى في ما يمهد الطريق أمام مفهوم «نائب الخدمات»، لحق لنا أن نرفضه كمنتج يعكس آمال ثورة شعبية ملهمة؛ فنائب الخدمات يأتى على قاعدة من صلات شخصية بين النائب البرلمانى وقاعدته الشعبية، ومن ثم تتأسس تلك العلاقة وفق مصالح متبادلة صغيرة، لا تتسع لتشمل المصالح الوطنية، حيث يسود مفهوم «نائب الخدمات» الممثل لدائرته الصغيرة، مهما اتسعت، على حساب «نائب الأمة» الممثل للأمة بأسرها، القادر على النهوض بمسئولياته التشريعية والرقابية. ولا شك أن نائب الخدمات لا يمكنه التجاوب مع مقتضيات المرحلة الراهنة الدقيقة من عمر الوطن، وما تقتضيه من ثورة تشريعية واجبة، بمقتضاها يتخطى الوطن الهوة الواسعة الفاصلة بين موروثنا الثقيل من القوانين العقيمة، وواقعنا المتغير بفعل عملية التحول الديمقراطى التى أفرزتها الثورة المصرية. وعليه، فإن دفعًا باتجاه النظام الفردى ينطلق من رؤى لا تستقيم والحالة الثورية التى سيأتى البرلمان المقبل ليعبر عنها، فكون الأحزاب ضعيفة أمرا يستوجب دعمها لا قتلها، وكون المواطن المصرى يميل للنظام الفردي، فهى حقيقة ينبغى مواجهتها باعتبارها من رواسب ثقافة سياسية أنتجتها أنظمة غير ديمقراطية باعدت بين المواطن والعمل المؤسسي، وما عادت تصلح للتعبير عن الثورة، وتبنى طموحاتها المشروعة. «الوفد»