عهد جديد يلوح في الأفق القريب، ونحن علي أعتاب انتخابات رئاسية من شأنها بلورة الإرادة الشعبية الحرة في اختيار مرشح لتولي أرفع منصب في الدولة، هو رمز للدولة بكل المقاييس، مهما انتزع من صلاحياته لصالح منصب رئيس الوزراء، أو زادت قدرة البرلمان علي محاسبته. ولما كانت الثورة المصرية قد عانت كثيراً حتى وصلت إلي هذه النقطة الفارقة، فإن حرصاً جاداً وواجباً ينبغي أن يجمع كافة القوى الثورية، لتفادى ما يمكن أن يعيد إلي الأذهان ملامح ما عاد لها موقعاً مشروعاً في طريق المسار الثوري نحو تحول ديمقراطي حقيقي. فعلي مدى عدة عقود، غابت فيها المساءلة والمحاسبة المؤسسية، بحكم غياب الديمقراطية كثقافة مجتمعية حاكمة، حتى نهض الشعب بذاته في الخامس والعشرين من يناير يحاسب حكامه، وانتفض ثانية في الثلاثين من يونيه يصحح المسار بعد انحرافه، ويفرز وفق معيار وطني خالص، كافة أطراف المشهد السياسي. وقد كان لغياب الديمقراطية عن حياتنا السياسية أثر مباشر لتراجع الأهمية النسبية لمفهوم «البرنامج الانتخابي» في تجاربنا الانتخابية، رئاسية كانت أو برلمانية، حيث ارتكزت العملية الانتخابية وفق مفاهيم لا سند لها في الممارسة الديمقراطية الحقيقية، الأمر الذي دفع باتجاه إعلاء شأن «الكاريزما» والعزوة والنسب، وصولاً إلي الأهل والعشيرة مؤخراً، فيما أكد أن «المصالح المشتركة» باتت مفهوماً لا يضم كافة أبناء الوطن في الممارسة الانتخابية، وهو أمر بالغ الدلالة علي ما شهده المجتمع المصري من حالات استقطاب غير مسبوقة منذ قيام ثورة يناير المجيدة. ومع اقتراب فتح باب الترشح للرئاسة؛ ومن ثم بدء عملية الدعاية الانتخابية بشكل رسمي، فقد وجبت الإشارة إلي بعض ما يضمه موروثنا البغيض في هذا الشأن من ملامح شديدة الدلالة علي تردي حال الممارسة الديمقراطية في مصر، ما يجعل منها معياراً حاكماً لقياس مدى ما قطعته الثورة المصرية من خطوات علي طريق التحول الديمقراطي. من ذلك، مضمون الخطاب الدعائي للمرشح الرئاسي، وما يحتويه من طموحات وآمال، بغرض جذب أصوات الناخبين، دون الأخذ في الاعتبار دقة ما يضمه الخطاب من أرقام و«حقائق»، ومدى إمكانية تحقيق ما جاء في برنامجه الانتخابي، ودون مراعاة تداعيات الإخفاق في تجسيد ما بثه من أحلام في نفوس البسطاء من أبناء الشعب، وقد بات الحلم أغلي ما يملكون. وفي هذا السياق، ومع أهمية تحقيق ما في البرامج الانتخابية من مشروعات، درجت العادة وصفها «بالعملاقة»!، إلا أن الأسوأ أثراً علي تجربتنا الديمقراطية الوليدة، ما يمكن التعبير عنه «بتنكر» المرشح للقيم التي استند إليها في برنامجه الانتخابي، والتي بموجبها ستلتف الجماهير حوله يوم «الصناديق». وربما استدعي الإشارة إلي ذلك ما يروج له «البعض» الآن، من حاجة الوطن إلي «مُستبد مُستنير»، وهو قول زائف، لا داعم له في التجارب الدولية الناجحة التي نبتغيها مرجعاً للحالة المصرية، قدر ما لا ينتمي أصحابه بالقطع لجوهر الثورة الشعبية التي نادت بمبادئ سامية، تؤكد أنها لم تكن «ثورة جياع»، بل كانت ثورة كرامة وحرية. وعلي ذلك فإن إدراكاً لمتغيرات الأوضاع في المجتمع المصري بعد الثورة، يؤكد ضرورة توافر القدرة علي الإنجاز، قبل الكاريزما. وتمسكاً بالقيم التي نهضت الثورة لتعلي من شأنها، بالقطع يأتي علي حساب توازنات أسقطتها الثورة. والحال كذلك، فلا مجال لإعادة صياغة البرامج الانتخابية بعد الانتخابات، لإفساح المجال أمام تعبيرات لطالما دلت بوضوح علي الفشل في إدارة شئون الدولة، فما عادت «الزيادة السكانية» مبرراً متاحاً لتمرير غياب الرؤى وفشل السياسات، ولم يعد ممكناً اختزال «إنجازات» الرئيس في مجموعة من الأرقام لا أثر لها في حياة الناس، فلطالما تشدق نظام مبارك الفاسد بما «أنفقه» علي البنية التحتية، بينما الناس في الطرقات ينامون. ومن ثم فإن لكل مرشح رئاسي أن يدرك من الآن، وقبل الشعب، أن «عصا موسي» ليست معه، كما لم تكن كذلك مع كل القادة الذين نجحوا في التحول بمجتمعاتهم إلي مواقع متقدمة في سنوات قليلة. «الوفد»