يستحي القلم ويخجل احتراماً وتبجيلاً أمام ذكرك يا جدتى الغالية.. رفعت قلمي لأخط بحبر الاحزان شيئا على ورقة تسجيل الآلام، لأكتب اليوم رساله اليك يا جدتي الحبيبه، عبر السحاب.. عبر الايام. فى هذا الليل حيث السكون يخيم على الطرقات.. الاضواء تتراقص في منظر غريب, شيئا يختلج صدري، ابحث عنها في جوف الليل، لأرى ابتسامتها المشرقة , ما بين مخطئة وصادقة، اسمع همسا دافئا يأتيني من بعيد.. هو صوتها . ارسل لكِ سلامي حالما بذكريات الطفوله عندما كان صوتك الحنون وقلبك الرقيق يحضنني ويضمني صدرك في رفق وحب .. اه ياجدتي كم من ساعات والايام مرت وذكراك باقيه.. على وقع قصصك الجميلة . اه ياجدتي.. انني مازلت احلم بتلك اللحظات التي وعدتيني بها حين قلتِ لي انه في يوم من الايام سوف يصير لك اولاد وبنات تحبهم وتنتظر قدومهم لكي يحضروا لك احفادك مثلما فعل والديك . منذ أن وعيت على هذه الدنيا, ومن نعومة أظافري , وجدت نفسي متعلق بجدتي, أحبها حباً جما, كنت لا أذهب للمنزل إلا وهي هناك, تستقبلني بابتسامتها الحنونة , الدافئة , فأرتاح, ويصبح فؤادي الذي يتغلغل حبها فيه, يرقص فرحا مستبشراً برضاها المطمئن . أنا مؤمن بالقضاء والقدر, وأعلم أن الموت حق, و كل نفس ذائقة الموت , فدائماً ما كنت أفكر, واسأل نفسي.. كيف سأتلقى نبأ رحيلك, لو أنك يوماً رحلتى أيتها الجدة الحنونة؟ لقد جاء ذلك اليوم المشئوم الذي كنت أرقبه, واذا بباب غرفتى يدق منذ الصباح الباكر، فاستيقظت من نومى, وتبلغت بخبر الوفاة , معلناً نهاية نبض ذلك القلب المعطاء.. رحيل ذلك الحنان الذي لا نضوب له ولا حدود. استقبلت الخبر كالصاعقة على رأسي, وضاقت في عيني الدنيا بما وسعت والأرض بما رحبت.. استيقظت مفزوعا لا اعلم ماذا افعل , وقفت امام المرآة وحيداً لا اعلم, نظرت الى عقارب الساعة , لأتفاجىء انها توقفت عن الحركة , وكان الحياة كلها توقفت بعد وفاتك، وليست عقارب الساعة فقط !! استيقظت سريعاً واعصابى متوترة, ولا تكاد أقدامي تقو على حملي من هول الخبر وفاة حبيبتى.. احسست بوهن كبير في جسمي وعظامي, لا استطيع الحركة, حاولت عدم تصديق هذا الخبر المشؤوم، الا ان دموعى انهمرت بدون إرادة مني.. هذه حقيقة الحياة . ذهبت الى المستشفى التى كانت ترقد فيها جدتى مسرعاً لاشاهدها ولكى اطمن على والدتى التى سبقتنى فى الذهاب الى هناك وانا اعلم انها تتالم, وصلت الى المستشفى بل ووصلت الى غرفة تغسيل الموتى , كنت مذهولاً.. لا أعرف نفسي.. لم أتمالك روحي وأنا أقبّل رأسها , كنت أتمنى تلك القبلة وأنت تشاهديني، ولكن أبى الموت إلا أن أقبلك وجسدك على النعش . تساءلت وقتها: لماذا يصر الناس على إلقاء نظرة الوداع على الجثامين؟ أهو واجب تجاه من نحبهم، أم لكي نرضي ضمائرنا، أم لأننا بتلك النظرة نستعيد أياماً حلوة مضت؟ وأين تلك الأيام التي سأتذكرها بإلقاء نظرة الوداع عليها؟ ما الذي سأتذكره حين أراها ممددة أمامي جثة هامدة؟ أيام الشقاء؟ أيام الحب، أم أيام الغباء التي مرت؟ أهو حظنا ونصيبنا؟ أم إرادة الله فينا؟ هل نبكي لما حل فينا، أن نصبر ونعده امتحانًا علينا النجاح فيه؟ توقف الزمن، وأنا أرى جسدك،، للمرة الأخيرة والنظرة الأخيرة، كان زمناً صعباً ذاك الزمن ، وأنا أمامك وأنت أمامي ولكن كلانا لا يستطيع أن يعمل شيئاً للآخر ، قبلت جبينك وأنا أعلق أن هذه القبلة سأتمناها يوما ما ، لم أستطع أن أرفع رأسي عن جبينك ، وكأني أصرخ ، أرجوك لا ترحلي ، لا تتركيني هنا ، ولكن حكم القدر أن تتركني وترحلى، وأن أتركها وأرحل. ما زلت اقف امام الجثمان, اقرأ الفاتحة وادعو لك بالرحمة , انظر الى الجميع داخل الغرفة من الاقارب والاصدقاء واشاهد الحزن على وجوههم، كانها تحمل كل هموم الدنيا , او كانها حملت احزان العالم التى لم يحملها احد فى الحياة , ثم انظر مرة اخرى الى جدتى متمنيًا أن تفتح عيونها لأراها للمرة الأخيرة. أقتربت منها أكثر أصبح رأسي فوق رأسها وضعت يدي على رأسها أتحسسه للمرة الأخيرة , كنت في تلك اللحظة أستعيد رحلتي معها وطفولتى , ألقيت برأسي وصدري عليها , عانقتها كما يتعانق الأحباب , كانت دموعي فى ذلك الوقت تنهمر كسيل جارف، بل كنهر دافق لا يقف في طريقه أحد. لا أدري من أين جاء صوتها، لكأنني سمعته يرن في أذيداعب أذناي , وهى تنادى على , وتطمن على من حولى , وتوصينى على والدتى, وانا ما زلت واقف فى مكانى, واقول اليها بعد ان انتهيت "وداعاً جدتى وربنا يرحمك برحمته" , لم يوقظنى من حالتى سوى بكاء الاخرين من حولى. كان الجميع من حولى يذرف الدموع مثلى , مسحنا دموعنا , وعدلت من وقفتى , لتدخل مغسلة الموتى وتغلق الكفن واحكمت إغلاقه , ثم يدخل بعض الرجال من العائلة وحملوها و خرجوا بها , ليضوعها داخل النعش.... لا احد يستطيع ان يتماسك امام هذا المنظر الذى لن أنساه أبداً . توجهت الجنازة إلى المسجد ومن ثم الى المقبرة , كانت جنازة تضم الاهل والاقارب والاصدقاء , دفناها وسط الدموع والصراخ, تقدم اولادها , بالاضافة الى اخى وحملها الى مثواها الاخير, لم يكن بمقدورى التقدم والمشاركة فى انزالها الى القبر, لحزنى الشديد على رحليها. كنت الوحيد الذي يبكي بصمت، ويتألم بصمت، ويراقب بصمت , كان الصمت في ذلك الموقف أبلغ من أي كلام , ها هي جدتى تنزل إلى مثواها الأخير! أتكون تلك نهايتها ؟ في حياتها لم أفارقها أبداً الا فى الآونة الاخيرة لانشغالى فى عملى، واليوم أرى نفسي قد فارقتها، كم أنا قاسي القلب، كم أنا عاق بجدتى، فجدتى هناك تحت الثرى وحدها، يأتي عليها الظلام وحدها، وأنا هنا لست معها ، ما أقوى قلبي على العقوق، فكيف أعيش بهذه الحياة وجدتى هناك تعاني الوحدة! سامحينى يا جدتى إن تركتك تموتين وحيده وأكتفيت بأن أحمل نعشك الفارغ على كتفى.. سامحينى لأننى لم أتمدد إلى جوارك يوم أن أهالوا الثرى على بريق وجهك الحبيب.. سامحينى فقط كان يجب أن أرفض العزاء بروحك الغاليه يومها, وأصرخ بأنه ما زال هناك فى العمر متسع لكى تعيشىين.. سامحينى فقط دخلت منزلك بدونك وقولت " اين ذهبت هذا المخلوق الذى كان يقف امامى فلم اعد اراه الا على الورق". سامحينى جدتي، فقط تذوقت الطعام من غيرك , سامحينى لانى ابكى عليكى وانا اعلم ان البكاء يعذب الميت, سامحينى انى لم استطيع ان اذهب اليك فى العيد لانشغالى وان كنت اعلم ذلك لكنت بعت الحياة من اجلك. هل تعلمين ان لك حفيداً يذكرك وانت تحت التراب, لا يمر يوما الا وانت ببالى.. اتذكرك واتذكر ايامى التى قضيتها معك.. أخيراً جدتى.. الآن فقط بدأت استوعب خبر وفاتك! { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي } صدق الله العلي العظيم ..