اختطف الموت الحفيد الصغير فى ساعات معدودة.. وولد الحزن عملاقاً، ولا يدرى أحد متى يقل أو يتضاءل، وبالتأكيد سيهون مع الأيام ولكنه أبداً لن يختفى.. ولن تعود الحياة كما كانت ولن يفرح القلب كما كان يفرح، فقد أخذ الصغير قطعة من القلب لن تعود ولن يندمل جرحها. خيَّم علينا حزن ثقيل يوم الاثنين الماضى، وبكينا مع الأب والعم وهما يحملان النعش الصغير، ورأينا كيف تعصى دموع الرجال لتظل تغلى داخل الصدور، وتمنيت أن أراهم يتركونها تفيض وتنساب لتغسل قليلاً من وجع الفراق. كلنا إلى موت.. وكم رأينا من أطفال فى عمر «محمد» وأصغر.. يلاقون ربهم ملائكة أطهاراً، ولكن كان الحزن على «محمد» شديداً ثقيلاً وأنا على الأقل أتحدث عن نفسى وعمن هم حولى، وعن الذين تحدثوا فى التليفونات بأصوات تخنقها الدموع.. وعن الشارع الذى أصابه الوجوم وصار زحامه بلا ضجيج. تحولت عائلة الرئيس فجأة إلى عائلة مصرية نعرفها جيداً وإن كانت لا تعرفنا، تلاشت من حولها هالات الرئاسة وظلال السلطة وبرواز الحكم.. وتوحدنا معها فى الألم المرير وكل منا يتخيل عذابه.. الأب والأم من الشباب بكوا الابن الصغير.. والأب والأم من الكبار بكوا الحفيد، هذا الحفيد الذى يأتينا فى أيام الكبر فيعيد لنا طفولة الأبناء، نعيشها معه يوماً بيوم، حيث الأيام أقل ضجة واللهاث من أجل المستقبل قد هدأ واستقر، والفرصة متاحة للحب الجارف والملازمة والمراقبة.. تولد داخلنا دفقة من التوهج والنشاط والحيوية، وكأن السنوات قد عادت إلى الوراء لنبدأ معه حياتنا من جديد، ولكن بأحاسيس رقت بفعل الأيام وبمشاعر أرهقتها أحداث الزمن ففاضت مرهفة.. تفرح وتفزع وتحب وترتبط بكثير من المبالغة التى لا حيلة لنا فيها.. ونعيش أياماً يكون هو محور الحياة ونورها وبهجتها وجدواها.. لذلك رغم ألمى الشديد على الأب الشاب المكلوم، والعم الجريح، فإننى بكيت وأنا أرى الجد والجدة اللذين فقدا الحفيد.. لم يطل فى تلك اللحظات رئيس الدولة أو السيدة الأولى خيالى بل الجد والجدة فقط.. عايشت معهما الألم والمصاب والفجيعة، واحتضنت حفيدى الصغير وبكيت.. ليس لدى ما أقدمه لهذه العائلة الحزينة سوى المشاركة بالحزن والألم مثل كل من سمع وعرف من أهل مصر. هذا الشعب شديد التحضر والإنسانية الذى يلغى حساباته وينسى اختلافاته ويخفض الرأس حزناً أمام جلال الموت، ويشارك صادقاً بقلب شديد الإيمان. ربما لو وصلت إليهم هذه المشاركة الحقيقية رغم عجزها، لخففت قليلاً من غياب قرة العين المفاجئ ولحملت بعضاً من ثقل الأيام المقبلة إلى أن يمن عليهم الله بفرحة جديدة وحفيد جديد، أخٍ ل«عمر» أو ابن عم، لتبرأ القلوب من حزنها بإذن الله.