نشرت جريدة «تليجراف» البريطانية تقريرًا عن المرتزقة في السودان ودورهم فى الحرب الأهلية هناك، وأوردت أنه فى مستودع تبريد بجنوب دارفور بالسودان على بُعد أكثر من 6000 ميل من ديارهم تُركت جثث ما لا يقل عن 20 مرتزقًا كولومبيًا مهجورة دون المطالبة بها.. بعض هؤلاء الشباب الذين يتجاوز بعضهم بالكاد سن المراهقة كانوا على دراية بمخاطر مهمتهم، بينما ظن آخرون أنهم وقّعوا على وظائف أمنية روتينية. لكنهم وجدوا أنفسهم فجأة فى الخطوط الأمامية لأحد أكثر الصراعات دموية فى العالم. ◄ «تليجراف» البريطانية: مراهقون يقاتلون ويموتون في دارفور ◄ 300 جندي سابق من كولومبيا على خطوط النار «يحتفظون بهم فى الثلج».. هذا ما قاله خوان، وهو مرتزق كولومبي يتحدث من معسكر عسكرى خارج مدينة نيالا بدارفور، مضيفًا: «بعضهم من مجموعتى». ◄ مدينة الفاشر في الأسابيع الأخيرة ظهرت تقارير عن كولومبيين يقاتلون ويموتون إلى جانب قوات الدعم السريع حول مدينة الفاشر المحاصرة بدارفور، وتُظهر مقاطع فيديو رجالًا ببشرة فاتحة يتحدثون الإسبانية، يشاركون فى قتال شوارع عنيف أو يدربون ميليشيات محلية. وجود مئات المرتزقة من أمريكا الجنوبية فى صحراء السودان أضاف بعدًا دوليًا غير متوقع إلى حرب أصبحت ساحة مفتوحة لتدخلات أجنبية متعددة.. لكنه أبرز أيضًا ازدهار عصر جديد للمرتزقة، حيث تتلاشى الحساسيات حول استخدامهم، وتتسع خيارات من يبحثون عن أسلحة للإيجار. يقول خوان إنه واحد من 300 جندى كولومبى سابق على الأقل تم جذبهم إلى كارثة السودان، وأن العديد منهم خُدعوا بوعود بوظائف أمنية خاصة فى إحدى الدول بالمنطقة.. العرض كان مغريًا: عقد براتب شهرى حوالى 1900 جنيه إسترلينى (2600 دولار) معفى من الضرائب، وتذاكر طيران مدفوعة. لكن التفاصيل بدأت تتغير. «يخبرونك فى البداية أنك ستحمي مواقع نفطية أو فنادق». ويضيف خوان الذي أُجبر على توقيع اتفاقية عدم إفشاء قبل وصوله - إلى تلك الدولة مع حوالى 60 آخرين فى مارس الماضى: «بعضهم كانوا يعرفون أنهم ذاهبون إلى السودان، لكننى لم أكن أعلم، ولا أعتقد أن معظمنا كان يعلم». بعد يوم جُمعت هواتفهم وجوازات سفرهم «لأغراض أمنية».. وأُخبر خوان أنه سيُرسل إلى ليبيا لدورة تدريبية، لكن بعد وصوله نُقل هو وزملاؤه عبر الصحراء إلى مناطق سيطرة قوات الدعم السريع بدارفور.. هناك مسارات أخرى، مثل مدينة بوصاصو الصومالية، لكن الوجهة واحدة: وهى نيالا ومعسكرات تدريب الدعم السريع. ◄ صراع شرس قوات الدعم السريع، بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتى)، تخوض صراعًا مع الجيش السودانى بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان منذ أبريل 2023. فى نيالا يوجد مركز لوجستى رئيسى، ويدير الكولومبيون دورات تدريبية لمدة خمسة أسابيع أو يحرسون المطار. ويقول خوان إن كل دفعة من قوات الدعم السريع تضم مئات أو حتى ألف مقاتل، غالبيتهم أطفال ومراهقون، وهى ممارسة تُعتبر جريمة حرب وفق مراقبى حقوق الإنسان. مستطردًا: «إنه أمر مروع»، لكن ضباط الجيش السودانى يقولون إن الكولومبيين لا يقتصرون على التدريب، بل يقاتلون فى الخطوط الأمامية بدارفور وكردفان، ويستخدمون مهارات متخصصة فى الطائرات المسيرة والاتصالات والتشويش، كما يستخدم الدعم السريع مرتزقة من إثيوبيا وجنوب السودان. ويقول الضابط أحمد صافى الدين: «لا يفهمون تكتيكاتنا ولا يعرفون جغرافيا دارفور، لذلك قُتل العديد منهم.. لقد استعدنا وثائق هوية كولومبية رسمية لإثبات ذلك». الحرب الطويلة فى كولومبيا ضد مقاتلى «فارك» وعصابات المخدرات أنتجت جيلًا من الجنود المدربين تدريبًا عاليًا، يتقاعدون صغارًا ويبحثون عن لقمة العيش. لأكثر من عقد، استوعبت الأموال بالمنطقة هذه الخبرات فى وحدات أمنية خاصة، يقاتل المرتزقة الكولومبيون فى اليمن وأوكرانيا وغيرها، بتكلفة أقل بكثير من نظرائهم الأمريكيين أو البريطانيين. ◄ قدامى المحاربين وفي ورقة بحثية عام 2019 قال شون ماكفيت - من الجامعة الوطنية للدفاع فى واشنطن- إن قدامى المحاربين من أمريكا اللاتينية هم واحدة من خمس شبكات رئيسية لتجنيد المرتزقة عالميًا، إلى جانب الولاياتالمتحدة، المملكة المتحدة، الجمهوريات السوفيتية السابقة، وخريجى شركة «إكزكيوتيف أوتكومز» الإفريقية.. «سوق القوة» فى ازدهار، يكتب ماكفيت، وقد توسع بشكل مقلق. في العصور القديمة والوسطى كان المرتزقة شائعين فى ساحات المعارك، لكنهم كانوا موضع شك بسبب تقلب ولاءاتهم. مع صعود الدول القومية، احتكرت الجيوش الوطنية الحرب، وأصبح المرتزقة منبوذين.. لكن بعد انهيار الجدار البرلينى ونهاية الحرب الباردة، عادوا بقوة عبر شركات مثل «بلاك ووتر» و»ساندلاين إنترناشيونال»، التى أطلقت على نفسها اسم «مقاولو الأمن».. وتفجرت السوق عندما كلفت أمريكا شركات خاصة بمهام فى العراق وأفغانستان، ثم بدأت فى توظيف جنود من دول ذات أجور أقل مثل كولومبيا، لتقليل التكاليف. وفي السنوات الأخيرة قادت روسيا المرحلة التالية عبر مجموعة «فاجنر»، التى جندت السجناء للقتال فى أوكرانيا وسوريا وليبيا وإفريقيا. قصة الكولومبيين فى السودان تنسجم مع ما يُسمى «العصر الذهبى الجديد للمرتزقة»، لكن بالنسبة للكولومبيين الذين تم استغلالهم لا شىء ذهبيا فى تجربتهم. ◄ مصاعب الهروب تتحدث السلطات فى العاصمة الكولومبية «بوجوتا» عن تشديد قوانين المرتزقة، وملاحقة المجندين، ومساعدة العائلات فى استعادة الجثامين.. لكن الشبكة عابرة للحدود، والمنطقة النزاعية فوضوية، مما يجعل التحقق من الهويات أو الإعادة عملية شاقة. وتقول والدة أحد الشباب: «أحاول جمع المعلومات، لكن ابنى خائف جدًا من تقديمها». قصة المرتزقة الكولومبيين فى السودان تكشف كيف يتحول اليأس الاقتصادى إلى وقود للصراعات بالوكالة، بينما يستمر القتال حول الفاشر، وتتفاقم أزمة الجوع والنزوح فى السودان، تظل هذه الجثامين فى مستودعات التبريد شاهدة على استغلال بشرى وفوضى جيوسياسية، والعالم يراقب، لكن دون تحرك دولى حاسم، تستمر هذه المأساة.