وَقَفَ ياسر عرفات طويلًا، وصفق بحرارة، وارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة، بعد أن سمع الرئيس الراحل أنور السادات يقول فى خطابه أمام مجلس الشعب: «إننى على استعداد أن أذهب إلى آخر الأرض إذا كان ذلك سيمنع إراقة دم جندى واحد من أبنائي.. وسوف تندهش إسرائيل حين تسمعنى أقول إننى مستعد أن أذهب إلى الكنيست..».. ساعات قليلة وانقلب «عرفات» على «السادات»، فلم يصمد أمام تهديدات «القذافى» له بمنع المعونات، نسى أنَّ «السادات» قد أرسل له طائرة أتى بها من الأردن ليحضر خطابه، الذى سيكون فيه شىء هام للقضية الفلسطينية كما قال له «السادات».. وأيام قليلة وكانت سورية والعراق والجزائر واليمن الديمقراطية «الجنوبية» ومنظمة التحرير الفلسطينية قد انضمت جميعها إلى ليبيا فى جبهة «الصمود والتصدى» التى دعا إليها الرئيس الليبى الراحل معمر القذافى، وتحمس لها وقادها فيما بعد الرئيس العراقى الراحل صدام حسين.. ولم يهتم «السادات» كثيرًا بهذه الجبهة حتى تحللت وانحلت، ووصف قادتها بأنهم أقزام، ولم تكن جبهة «الصمود» وحدها هى التى قاطعت وعارضت، فكل الدول العربية تقريبًا قد سارت فى طريق الرفض لتوجهات «السادات» نحو السلام.. غير أَنَّ «السادات» لم يكن أيضًا مهتمًا بمن عارضوا فكرة زيارته الاسرائيليين فى عُقر دارهِم، ومَدْ يده لهم بالسلام.. فقد كان واعيًا ومُدرِكًَا أنَّ الشعوب وحتى الدول لا تعيش فى عداءٍ أبدىٍ مع غيرها، وكان فى مُخَيلتِه أن الدول التى حاولت الصمود فى مواجهته والتصدى لتوجهاته، قد أصبحت فى صداقة مع شعوب ودول أخرى كانت قد احتلتها من قبل.. وتحول مصريون ومعهم العرب الذين دفعوه للحرب دفعًا، إلى أعداء بعد ما أقدم على السلام.. وصفوه بالعمالة والخيانة.. لعنوه وسبوه وشتموه بأحط الألفاظ.. تطاولوا عليه وقاطعوه، لكنه كان متمسكًا ومُصِرًا على أَنْ يمضى فى طريقه الذى انتهى بإعادة الأرض المحتلة لمصر.. ولو أنَّ الرئيس السورى الراحل حافظ الأسد، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات قد شاركا السادات فى مشواره، لكانت الجولان قد عادت وتحررت، ولكانت الأراضى الفلسطينية تحت حُكم الفلسطينيين، لكن الجميع لم يكونوا على مستوى وَعى ورؤية «السادات»، فتخلفوا عن ركبه، ثم استفاقوا يحاولون الحصول على جزء مما كان معروضًا عليهم، ولم يحصلوا.. مات السادات ملعونًا من الجُهلاء، منعوتًا بالجنون، غير أَنَّ التاريخ أنصفه، وأثبت عمق رؤيته ورجاحة عقله، وأنه كان مناضلًا وطنيًا مخلصًا، لم يَخُن ولم يُفرّط فى حق بلاده التى خاض من أجلها معارك الحرب والسلام.. وبعد غدٍ يكون قد مرَّ 36 عامًا على خطاب «السادات»، وإعلان رغبته فى زيارة القدس، ومازال العرب مختلفين كعادتهم.. لم يحسموا موقفهم منه.. فمنهم من يرونه ديكتاتورًا مستبدًا ألقى بمعارضيه فى غياهب السجون، وقص ألسنة منتقديه، ومنهم من يراه قد فرط فى الانتصار الكبير الذى حققه جنودنا البواسل، ومنهم من يرونه الخائن الذى وضع يده فى يد الأعداء الصهاينة، وذهب إليهم فى دارهم يستجدى منهم سلامًا، لا يتناسب مع ما حققته القوات من نصر.. والغريب أنَّه مازال بيننا من يرون أنور السادات عميلًا خائنًا كما كان يراه المغيبون عام 1977.. رحم الله السادات العظيم، ورحم الذين لم يصمدوا أمامه، وشفى المغيبين من أمراضِ عقولِهم..