أيها الأخوة المصريون: ألم يكن هناك إجماع على أن الإسلام دين ضد العنف والتعصب أليس الإسلام ينبذ الاستعلاء والكبر واحتكار الحقيقة والاستئثار بالسلطة؟ أليس الإسلام يعترف بوجود الآخر ويُقر حقّه في التَّديّن ويُقدّر اختياره في الحياة ويحترم الخصوصية؟ أين الإسلام الذي تربينا عليه من الخطاب الديني المتشنّج الذي لا يملك سوى إمطار المخالفين من داخل دينه وخارجه بالكفر وغيره من التهم الجارحة التي لا تحصى ولا تُعد؟ إن التسامح في الإسلام تجاه التنوع والاختلاف، يستوجب الاحترام المتبادل بين جميع الفرقاء، ويستلزم التقدير المشترك، ويفرض التعامل في نطاق الدائرة العامة من دون المسَاس بدائرة الخصوصية الدينية أو المذهبية أو حتى الثقافية. إن الإسلام –قول واحد- ضد الإقصاء، ضد الصوت المتشنج، ضد فرض الوصاية على البشر، ضد احتكار السلطة. وفي رأيي أن الاحتفاظ بالهوية لا يعني بالضرورة رفض الآخر، والهوية الدينية في القرآن الكريم قائمة بشكل راسخ على التنوع والاختلاف؛ قال تعالى: (لكم دينكم ولي دين)، وقال سبحانه: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). والهوية المذهبية أيضا قائمة على التنوع، وهذا ما أدركه الفقهاء القدماء (وهو ما سوف نخصص له مجموعة من المقالات إن شاء الله). وربما يكفي هنا الإلحاح مجددا –خاصة في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها بلدنا- على أن القرآن أكد ضرورة الاختلاف بين الناس، وكشف عن حتمية وجوده حتى يتمكّن كل فرد وكل مجتمع من العيش حسب ما لديه من إرادة وحرية واختيار وبالطريقة التي يحبها: (ولو شاء ربّك لجعل الناس أُمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين). كما أكد القرآن تباين ما تتفرّد به كل مجموعة من خصوصية سياسية ودينية وثقافية. وقد صرّح القرآن بهذه الحقيقة الوجودية فقال: {يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}. وهكذا نلحَظ، أن الغاية من اختلاف الناس إلى شعوب وقبائل وتنوعهم إلى ثقافات ومَدَنيات إنما هو التعارف، والتعايش، وبات واضحاً أن أهمية التسامح الديني تتمثّل في كونه ضرورياً ضرورة تنوع ظواهر الوجود ومخلوقاته. ومن الواضح أن قيمة التسامح الديني إزاء التنوع والاختلاف، تتمثّل في كونه يقتضي التسليم المطلق –اعتقاداً وسلوكاً وممارسة– بأنه إذا كان لنا وجود فللآخرين وجود، وإذا كان لنا دين له حُرمته فللآخرين دين له الحُرمة نفسها، وإذا كان لنا خُصوصية ثقافية لا تقبل الانتهاك، فللآخرين خُصوصية ثقافية لا تقبل الانتهاك أيضا. والسؤال الذي يطرح نفسه ومصر ترقد على صراعات مسلحة، هو: كيف يمكن التخلّص من الانشقاقات والصراعات بين طوائف المصريين؟ نحن بحاجة إلى استعادة أفكار الفارابي في «المدينة الفاضلة» بقدر احتياجنا إلى آراء مايكل والزر في «ميادين العدالة. كما أننا بحاجة إلى التذكير بآراء ابن رشد في «فصل المقال»، بقدر تذكيرنا بآراء جون رولز في «نظرية العدالة عن «الاتفاق بواسطة التقاطع، للتخلّص من الانشقاقات والصراعات بين طوائف البشر. إن « الاتفاق بواسطة التقاطع» هو الأساس لشراكة أكبر بين أبناء مصر المتناحرين، والشراكة السياسية هى السبيل لهزيمة الإرهاب، وهي النقطة الحاسمة في جهود مواجهة أيديولوجية هامشية متطرفة تنتهج العنف، ولا ترى سوى نفسها كحاكم لمصر! ولذا لابد من إعادة بناء أفكار المصريين حول التعايش الإيجابي والمشاركة السياسية. ولن تتجاوز مصر أزماتها، وتترك الجانب الخطأ من التاريخ، دون مصالحة وطنية حقيقية. وهذه المصالحة هي الأرضية الأساسية لبناء مجتمع مصري جديد، وإرساء قواعده على التعدّدية والديمقراطية وحرية المعتقد وقبول الاختلاف في الرأي والفكر وثقافة الإنسان وتقدير المواثيق الوطنية واحترام سيادة القانون. وهذه كلها خيارات استراتيجية وقيم إنسانية ناجزة لا تقبل التراجع ولا التفريط ولا المساومة، فالتسامح – إذن – عامل فاعل في بناء المجتمع، ومشجّع على تفعيل قواعده نحو بناء دولة جديدة لكل المصريين.