ذات يوم بعيد في باريس عاصمة النور والنار.. وكان الدكتور طه حسين، قد أنهي دراسته في السوربون، فوجئت به زوجته سوزان طه حسين، يدخل عليها البيت، وقد اشترى بعض أوراق اليانصيب! دهشت سوزان للغاية، فلم يكن من طبع طه حسين حبيبها وزوجها أن يتعلق بمثل هذه الأشياء أو الأفكار التي يتعلق بها عامة الناس. سألته متعجبة: طه.. هل مثلك يصدق في اليانصيب واللوتارية.. أتظن أنك سوف تكسب؟ ابتسم عميد الأدب العربى.. لا يا عزيزتى.. لست هذا الذي يؤمن بالحظ.. ومع ذلك فإنني لو كسبت في ورقة اليانصيب قد أكسب نقوداً، مجرد نقود، وإذا خسرت، فإنني لن أحزن، لأنني سأكون كسبت أحلام الفوز الجميلة، حتي لو لم تدم هذه الأحلام طويلاً! ومع أنني لم أشتر يوماً ورقة يانصيب، إلا أن معظم سنوات عمري كانت هذه الورقة! دون ورقة يانصيب، راهنت علي الغد. وقضيت أياماً وليالى طويلة أنتظر فجراً جديداً، يأتي بالندى الذي سوف يرطب وينعش جفاف أيامى! كم من ليال سهرت مع أحلام عذبة مدهشة. إن الصباح سوف يأتي حاملاً معه مفتاح الجنة! كم ليلة قضيتها منتظراً صياح الديك يقول لي إن النهار الجديد. سوف ينهي آلام اليوم، وإحباطات الأسى! كم كانت الأحلام جميلة، كم منحتني أحلامي صبراً، وخففت من شجونى، وربتت علي كتف عذاباتى! حلمت بالحب، وحلمت بالجمال، حلمت بالحق، وحلمت بالنور، حلمت بالأمل، وحلمت بالوصول، حلمت وأنا نائم، وحلمت وأنا صاح، حلمت بالليل وحلمت بالنهار، ولم أيأس من الانتظار! حلمت أنا الفقير، أنني ذات يوم سوف أكسب اللوتارية، وأشترى بيتاً صغيراً في الريف، وسط الغيطان الخضراء، بيت أحلامي الجميل، أعيش فيه وحيداً، أو مع فتاة الأحلام، بعيداً عن الضوضاء والضجيج. أنا وهي في البيت، لا تليفون ولا تليفزيون، نصحو من الفجر، نزرع الأرض بأيدينا، نرويها من آمالنا، نأكل من زرع أيدينا، أطعمها من يدي، وأشرب السعادة من كفها الصغيرة، وعندما يأتي المساء نأوي وحدنا إلي فراش السحر والحب، ونصحو مع الفجر، نصلي معاً، ونفرح معاً، ونعيش معاً! في شبابى.. وبدلاً من أكون طبيباً، كما كان أبي يتمني. غيرت مسار حياتي واخترت أن أدرس الصحافة وليس الطب، كنت أحلم يومها واهماً بصورة خيالية، ظننت أن الصحافة ستجعلني من أصحاب القلم. وأنني بهذا القلم أستطيع تغيير شكل الحياة حولى، حلمت أنني بالقلم سوف أرفع الظلم عن المظلومين وسوف أساعد المحتاجين. كان أستاذي مصطفي أمين أيامها يكتب عن الحرية والديمقراطية.. وعندما سألته إن كانت تلك مبادئه طوال عمره صمت وفكر. ثم قال: بل هي الحياة التي غيرتني وعلمتنى! لم تكن لي، ولن تكون، قامة مصطفي أمين، لكني اجتهدت من اللحظة الأولى، التي أمسكت فيها بالقلم. أن أكتب من قلب الحياة. أن أجسد بالقلم صورة الواقع بأمانة الله، اعتقاداً مني أن تلك أولي خطوات التغيير! لكن الأمر استغرق معظم مشوار عمرى. لأكتشف الفارق الكبير بين ما كنت أتمناه، وما يحدث علي أرض الواقع في الحياة، علمتني الدنيا دروساً صعبة، دفعت ثمناً غالياً من قلبي ومن سنين عمرى! وها أنا الآن أعترف.. الحلم شيء.. والواقع شىء آخر! أما الحياة.. فالسبب الذي يجعلني مازلت أستمر فيها، غير إرادة الله طبعاً، هو انتظار أن يتحقق ذات لحظة هذا الحلم الوهمى الذي طال انتظاره. انتظار أن أكسب ورقة اليانصيب إياها. مازلت أحلم.. لكن بقلب كسير!