عن الحرية والديمقراطية سألت مصطفي أمين.. فقال: الدنيا هي التي غيرتني! ظننت واهماً.. أن قلمي سوف ينصر المظلومين ويساعد المحتاجين! الحلم شيء.. والواقع شيء وحلم الصحافة المثالية تحطم علي أرض الواقع! ذات يوم بعيد في باريس عاصمة النور والنار.. وكان الدكتور طه حسين. قد انهي دراسته في السوربون، فوجئت به زوجته سوزان يدخل عليها البيت وقد اشتري بعض أوراق اليانصيب! دهشت سوزان للغاية، فلم يكن من طبع طه حسين حبيبها وزوجها أن يتعلق بمثل هذه الأشياء أو الأفكار التي يتعلق بها عامة الناس. - سألته متعجبة: طه.. هل مثلك يصدق في اليانصيب واللوتارية.. أتظن أنك سوف تكسب؟ ابتسم عميد الأدب العربي.. لا يا عزيزتي.. لست أنا الذي يؤمن بالحظ.. ومع ذلك فانني لو كسبت في ورقة اليانصيب. هذه قد اكسب نقودا، مجرد نقود. واذا خسرت.. فانني لن احزن - لأنني سأكون كسبت أحلام الفوز الجميلة - حتي لو لم تدم هذه الأحلام طويلا! ومع أنني لم اشتر يوما ورقة يانصيب، إلا أن معظم سنوات عمري كانت هذه الورقة! دون ورقة يانصيب. حقيقية راهنت علي الغد، وقضيت أياما وليالي طويلة انتظر فجرا جديدا، يأتي بالندي الذي سوف يرطب وينعش جفاف أيامي! كم من ليال سهرت مع أحلام عذبة مدهشة. أن الصباح سوف يأتي حاملا معه مفتاح الجنة! كم ليلة قضيتها منتظرا صياح الديك يقول لي إن النهار الجديد سوف ينهي آلام اليوم واحباطات الأسي! كم كانت الأحلام جميلة. كم منحتني أحلامي صبراً. وخففت من شجوني. وربتت علي كتف عذاباتي! حلمت بالحب، وحلمت بالجمال، حلمت بالحق، وحلمت بالنور، حلمت بالأمل، وحلمت بالوصول، حلمت وأنا نائم، وحلمت وأنا صاحي. حلمت بالليل وحلمت بالنهار. ولم أيأس من الانتظار! حلمت أنا الفقير، أنني ذات يوم سوف أكسب اللوتارية، واشتري بيتا صغيرا في الريف، وسط الغيطان الخضراء، بيت أحلامي الجميل. أعيش فيه وحيداً، أو مع فتاة الأحلام، بعيدا عن الضوضاء والضجيج. أنا وهي في البيت. لا تليفون ولا تليفزيون. نصحو من الفجر. نزرع الأرض بأيدينا. نرويها من آمالنا. نأكل من زرع أيدينا. أطعمها من يدي. وأشرب السعادة من كفها الصغير. وعندما يأتي المساء. نأوي وحدنا إلي فراش السحر والحب. ونصحو مع الفجر. نصلي معا. ونفرح معا. ونعيش معا! في شبابي.. وبدلا من أن أكون طبيبا. كما كان أبي يتمني. غيرت مسار حياتي واخترت أن أدرس الصحافة وليس الطب. كنت احلم يومها واهما بصورة خيالية، ظننت أن الصحافة ستجعلني من أصحاب القلم، وأنني بهذا القلم أستطيع تغيير شكل الحياة حولي. حلمت أنني بالقلم سوف أرفع الظلم عن المظلومين وسوف اساعد المحتاجين. كان أستاذي مصطفي أمين أيامها يكتب عن الحرية والديمقراطية.. وعندما سألته إن كانت تلك مبادئه طوال عمره. صمت وفكر. ثم قال: بل هي الحياة التي غيرتني وعلمتني! لم تكن لي - ولن تكون - قامة مصطفي أمين. لكني اجتهدت من اللحظة الأولي. التي أمسكت فيها بالقلم. أن أكتب من قلب الحياة. أن أجسد بالقلم صورة الواقع بأمانة الله. اعتقادا مني أن تلك أولي خطوات التغيير! ما أكثر ما حلمت.. وتمنيت! حلمت بنفسي أطير في سماء شارع الصحافة أن ترتفع يداي إلي قلب الفضاء. لتلمس نجوم الكون حلمت بنفسي أحلق عاليا في عالم آخر. ليس فيه شر أو قهر أو ظلم .وعالم بلا كذب ولا نفاق ولا رياء! ويوماً بعد يوم في دنيا الصحافة كانت تتساقط من فوق كتفي أجنحة الخيال. لأسقط من فوق إلي أرض الواقع. لأتعلم رغماً عني أن أكذب كما يكذبون. وأتنازل عن براءتي في دنيا الزيف والاحتراف. واستغرق الأمر معظم مشوار عمري. لأكتشف الفارق الكبير بين ما كنت أتمناه. وما يحدث علي أرض الواقع في الحياة. علمتني الدنيا دروسا صعبة. دفعت ثمنها غاليا من قلبي ومن سنين عمري! وها أنا الآن اعترف.. الحلم شيء.. والواقع شيء آخر! أما الحياة.. فالسبب الذي يجعلني مازلت استمر فيها - غير إرادة الله طبعا - هو انتظار أن يتحقق ذات لحظة هذا الحلم الوهمي الذي طال انتظاره. انتظار أن أكسب ورقة اليانصيب إياها مازلت أحلم.. لكن بقلب كسير! محمود صلاح