بمناسبة الاحتفاء اليوم بذكرى رحيل عندليب مصر الرائع عبد الحليم حافظ ال 36، التقتني الشابة الذكية هبة عادل الصحفية بمجلة الكواكب العتيدة، وبمهنية لا تخلو من إبداع سألتني: تفتكر لدينا الآن مطرب مصري يمكنه المغامرة والذهاب إلى نص أغنية مثل «المسيح» فيغنيها بكل هذه الروعة كما فعل حليم وغناها بحب وحماس؟!.. باغتني السؤال، ولكن كان من الطبيعي والمنطقي لمن عاش طفولته وصباه مثلي في أجواء زخم إبداعات تلك الفترة أن يجد الإجابة متذكراً تجليات تلك الحقبة الخمسينية والستينية الرائعة بحصادها الإنساني الثقافي والفني، مؤكداً للسائلة أن المبدع الأصيل هو ابن عصره، وعصر حليم وغناه كان يمثل في النهاية حالة تماهي رائعة مع أحوال بلد لديه مشروع وطني قومي ضخم يضم العديد من المشروعات الفرعية الداعمة للحلم الثوري الإنساني في مجالات الإبداع الجمالي.. سينما ومسرح وفنون تشكيلية وموسيقى وغناء بنماذج تُعد هي الأروع في تاريخ مصر المعاصر. في مطلع الأغنية الترنيمة التي كتبها الرائع عبد الرحمن الأبنودي وقام بتلحينها العبقري بليغ حمدي.. يُغني حليم: يا كلمتي لفي ولفي الدنيا طولها وعرضها / وفتحي عيون البشر للي حصل على أرضها / على أرضها طبع المسيح قدم / على أرضها نزف المسيح ألم / في القدس في طريق الآلام / وفي الخليل رنت تراتيل الكنايس.. هكذا يبدو الأمر جلياً، لون بديع من ربط القصص الديني الروحي المقدس بكل تفاصيله الدرامية في الكتاب المقدس باعتباره الحدث الأبرز في العقيدة المسيحية بمجىء السيد المسيح الفادي المخلص ليبرأ من يؤمن برسالته من علل وأسقام الخطايا، وبرغم مخالفة الحدث من جهة إيمان أصحاب العقائد الأخرى ونفيها وجوب الحدث أصلاً، إلا أن الأبنودي رأى في فكرة الفداء والخلاص ونبل معناها (بصرف النظر عن عدم الإيمان بما جاء في النص الديني المسيحي ورفض العقيدة اليهودية والإسلامية للحدث)، أنه ما المانع من استثمار تلك التفاصيل حتى لو كانت من وجهة نظر المبدع أسطورية وخيالية كالاستشهاد بعقائد ومعتقدات الخلود وغيرها من كتب تاريخ الحضارة المصرية القديمة والموثقة على جدران معابدهم، إذا كانت تفاصيل تلك الدراما يُمكنها إضفاء معاني النبل بربطها بقضية الأمة العربية والمواطن العربي المسلم والمسيحي الباحث عن مخلص وفاد لإعادة القدس والوطن السليب. ويواصل الأبنودي غنوته الترنيمة مستثمراً أرض حدث الصلب ثم تقديم قربان الفداء كموقع ينتظر «مسيح وراه مسيح وراه مسيح» للتأكيد على رمزية شخص المسيح المنتظر في ملمات ضياع الأوطان في كل العصور، ومشترك آخر هم اليهود الذي يمثل وجودهم عنصر الشر والخيانة في دراما حياة السيد المسيح، وأيضاً هم شخوص فعل دراما سلب القدس والوطن الفلسطيني وتبعات ذلك.. يواصل الأبنودي رائعته: وفي الخلا صبح الوجود إنجيل / تفضل تضيع فيك الحقوق لامتى لامتى / يا طريق الآلام .... يا طريق الآلام.. يا طريق الآلام / وينطفي النور في الضمير وتنطفي نجوم السلام / يا طريق الآلام / ولامتى يمشي فيك جريح / ولامتى فيك يفضل يصيح / مسيح وراه مسيح وراه مسيح / على أرضها / تاج الشوق فوق جبينه وفوق كتفه الصليب / دلوقت يا قدس ابنك زي المسيح غريب غريب / تاج الشوق فوق جبينه وفوق كتفه الصليب / خانوه خانوه نفس اليهود / ابنك يا قدس زي المسيح لازم يعود على أرضها. ولا شك، فقد استقبل الأقباط الأغنية بفرحة وسعادة، وعندما تم منع إذاعتها كانوا يبحثون عنها عبر إدارة مؤشر الراديو لسماعها عبر أثير المحطات الغربية، وبدوا وكأن الأغنية قد جاءت استجابة لنداء المواطن المصري المسيحي الذي يشعر بغربة في إعلام وفنون الوطن ، وكان يبحث عن نصيبه في صوت مطربه الكبير المحبوب. يقول الأبنودي في حوار له بجريدة «المصري اليوم» حول مناخ الإبداع وتحديات وجوده فترة إنتاج وخروج أغنية «المسيح» الإخوان لا يعرفون الفن، وليس بينهم فنان ولا شاعر ولا ملحن عظيم، لأنهم بلا خيال، وفى زمن «عبدالحليم» لم يكن هناك إخوان، لأنهم كانوا فى معتقلات «عبدالناصر»، ومن كان منهم فى الخارج كان مختبئاً، ينكر إخوانيته، ولم يشكلوا أى إعاقة للمسيرة، كما هو حادث الآن، وأضاف «الأبنودى»: أولاً علينا أن نفرق بين الوضع الحالى وزمن «عبدالناصر»، ففى زمن «ناصر» لم نكن نصادف مثل هذه الحالات الشاذة التى ترتدى ثياب الدين وتتفوه بأفظع الألفاظ التى هى ضد الدين، وتسلك كما الوحوش، وقد كنا ضد حبس الإخوان المسلمين فى ذلك الوقت، أما حالياً فأقول لولا سجن الإخوان لما استطاع «ناصر» أن يبنى مصر، قلت آنذاك لحليم : هناك موضوع يلح علي حيث فى كل هزيمة ونكسة نجد الآلاف من الفلسطينيين يزحفون من بلادهم التى استولت عليها القوات الصهيونية، وهذه البلاد هى بلاد «المسيح»، وإن هؤلاء يعذبون كما عُذب «المسيح». فقال لى: لو سمحت اكتب. وبالفعل بدأت الكتابة فى ظل وجود كمال الطويل، وبمجرد انتهائى من كل مقطع يلحنه «الطويل» فوراً، لذلك فقد اكتمل وضع اللحن مع الكلام. ويبقى سؤال «هبة عادل»، هل يمكن أن يعاود أحد من مطربي زماننا تجربة الأبنودي، وكما ذكرت سابقاً أن لكل عصر ظروفه وسياقه الإبداعي، ولكن المتابع لشأن الأغنية المصرية يجد أن لجيل الوسط محمد منير وعلي الحجار ومحمد الحلو، وقبلهم هاني شاكر محاولات رائعة في اصطياد كلمات وألحان لا تقل روعة تتماهى وتقترب بحميمية من تراث وحضارة المحروسة، أما من تلوهم فقد توهتهم حالة الاضمحلال الثقافي التي عمت البلاد للأسف مع الانفتاح الساداتي والاستقرار المباركي العبيط فكان المجد للتفاهة، ولكن صاحب أحداث ثورة يناير ظهور شباب مبدع لهم رأي آخر في تركيبة الأغنية.. منهم على سبيل المثال من أبدعوا أغنية «فلان الفلاني اللي كان يومها جنبي.. ساعة لما بدأوا في ضرب الرصاص.. فلان الفلاني اللي مَعرفش اسمه.. ف دايما بقول يابن عمي وخلاص...».. «فلان الفلاني» أغنية رائعة أراها من أهم أيقونات ثورة 25 يناير الإبداعية لشباب كانوا بفنونهم ورؤاهم البديعة المتجددة كل يوم في طليعة شعب مصر يشعلون جذوة الحماس في النفوس الثائرة الوطنية في ميادين الحرية.