نشر الكاتب الشهير جورج فريدمان تحت هذا العنوان في 4 ديسمبر بمجلة جيويولتيكال ويكلي عن الوضع في مصر واحتمالات المستقبل. يقول فريدمان إنه فور اعلان وقف القتال في غزة اندلعت أزمة في مصر. فقد أصدر الرئيس محمد مرسي الذي كان أول رئيس ينتخب بعد سقوط مبارك أصدر مرسوماً يقضي عملياً علي استقلال القضاء ويضع السلطة التنفيذية فوق المحكمة العليا. ويقترح تعديلات دستورية تثبت سلطة الاخوان المسلمين. وبمجرد صدور المرسوم هب معارضو مرسي في تنظيم تظاهرات ضخمة دخلت بها مصر في مرحلة عدم استقرار وعدم ثقة في المستقبل. وفي حالة معظم الدول فإن مثل هذه الاضطرابات لا تعتبر أمراً يخص العالم. ولكن مصر ليست مجرد أي دولة. فهي أكبر دولة عربية وكانت دائماً قائدة للعالم العربي. ولا يقل أهمية عن ذلك ان التغيرات الداخلية في مصر تترجم تغيراً في سياستها. وقد تؤثر في ميزان توازن القوي الاقليمي لعقود مستقبلة. فمرسي بذلك يتحدي النموذج الناصري. فقد كان الكثير من المراقبين ينظرون الي الربيع العربي علي أنه بصفة عامة حركة مدنية تحاول إقامة ديمقراطية دستورية. والمشكلة في هذه النظرة هي انه بينما استطاع فرض اجراء انتخابات نزيهة فلم يكن من المؤكد أن يفوز فيها المدنيون الديمقراطيون. وفعلاً لم يفوزوا في هذه الانتخابات. فمرسي عضو في الاخوان المسلمين. وبينما كانت هناك مزاعم عديدة بأنه معتدل. فلم يدرك الكثيرون أنه رجل عقائدي وأن عضويته في الاخوان المسلمين ليست شيئاً هامشياً في حياته. فقد كان هدفه تقوية دور الاخوان المسلمين في مصر وتمكينهم من السيطرة علي مختلف أجهزة الدولة. ربما كانت خطواته في درجة أسلمة الدولة وسرعة هذه الاسلمة أبطأ من غيره. ولكن هدفه كان واضحاً. كان تحركه ضد المؤسسة القضائية مؤشراً واضحاً علي هدفه في البدء في السيطرة علي السلطة. وقد أشعل بهذا التحرك ثائرة معارضيه ومعارضي الاخوان المسلمين. وضمنهم المدنيون الدستوريون وغيرهم من الفئات الذين كونوا تحالفاً كان مستعداً للنزول في الشارع لمعارضة تحرك مرسي. ولكن الحلف المعارض لمرسي لم يضم- علي الاقل حتي الآن- العسكريين في مصر الذين رفضوا الانحياز لجانب ضد الآخر. قام العسكريون المصريون بقيادة ضابط شاب يدعي جمال عبدالناصر بإنشاء دولة مصرية مدنية حديثة عندما أسقطوا الحكم الملكي الذي كانت تسانده بريطانيا سنة 1952 كانت دولتهم مدنية استبدادية واشتراكية تحالفت مصر مع السوفيتي ضد أمريكا حتي السبعينيات. وبعد الحرب العربية- الاسرائيلية قام الرئيس المصري أنور السادات- الذي اغتاله الإسلاميون فيما بعد- بتحويل مصر الي التحالف مع أمريكا وتوقيع معاهدة سلام مع اسرائيل. كانت هذه المعاهدة هي أساس توازن القوي الإقليمي حتي الآن. كان قرار إنهاء حالة الحرب مع اسرائيل واستخدام سيناء كمنطقة عازلة منزوعة السلاح بين مصر وإسرائيل ضماناً لايقاف التهديد بالحرب بين العرب واسرائيل. كانت مصر قوي الدول العربية. وكان عداؤها لاسرائيل يمثل الخطر الأعظم علي اسرائيل. وبانسحاب مصر من المواجهة تضاءل الخطر علي اسرائيل جداً. فالاردن وسوريا ولبنان لم تكن تستطيع شن حرب تهدد وجود دولة اسرائيل. وقد شكل قرار مصر بالتحالف مع أمريكا والدخول في سلام مع اسرائيل توازن قوياً من نواح أخري. لم تعد سوريا تستطيع الاعتماد علي مصر ولذلك لجأت الي ايران لمساندتها. وكانت أنظمة الحكم الملكية العربية علي مصر ولذلك لجأت إلي إيران لمساندتها. وكانت أنظمة الحكم الملكية العربية تحت التهديد السياسي وأحياناً العسكري من جانب مصر. فتخلصت من هذا التهديد نتيجة سياسة مصر الجديدة. وفقد السوفييت الحليف المصري الذي كان يضمن لهم موضع قدم في البحر المتوسط. والسؤال الجوهري في مصر حالياً هو ما اذا كان انتخاب مرسي استمراراً للنظام الذي أنشأه عبدالناصر في مصر وان انتخابه رئيساً هو مجرد حادث عابر وأن السلطة مازالت في يد العسكريين. لقد قام مرسي بخطوة يظهر بها سلطته ويغير كذلك النظام القضائي المصري. ومع أن الثورة علي هذه الخطوة كانت كبيرة فإنها لم تكن كافية لإ'رغام مرسي علي تغيير خطوته بل مجرد تعديل تكتيكه قليلاً. ولذلك فالميزان كله الآن في يد العسكريين وهل هم راغبون أو قادرون علي ايقاف مرسي. ومن سخرية القدر أن الليبراليين يطالبون حالياً بتدخل العسكريين. ولا يحتمل أن يحصلوا من تدخل العسكر لو حدث علي ما يريدون. يبدو ان الاخوان المسلمين هم القوة المسيطرة في مصر. وأن مرسي هو رجل الاخوان تماماً. وحتي لو كانت بعض تكتيكاته أكثر اعتدالاً مما يريد الزعماء المتطرفون في الاخوان المسلمين فإن اتجاه مرسي هو نفس اتجاه هؤلاء المتطرفين. وحالياً لا يبدو ان المتظاهرين في الشوارع قادرون علي إجبار مرسي علي التراجع. ولا يبدو ان هناك احتمالاً لتدخل العسكريين. واذا صح ذلك فإن مصر تكون علي أبواب مرحلة بها احتمالات عديدة في السياسة الخارجية. أول هذه الاحتمالات هو مستقبل معاهدة السلام مع إسرائيل وليس المهم هو بقاء المعاهدة بل بقاء سيناء كمنطقة عازلة بين الدولتين. وقد كانت احدي نتائج سقوط مبارك هي إعادة تسليح مصر لسيناء جزئياً بموافقة غير سعيدة من جانب اسرائيل. فقد أصبحت سيناء منطقة تجمع للمتطرفين للقيام بهجمات علي اسرائيل. فتحرك الجيش المصري لضربهم ولم تستطع اسرائيل الاعتراض. ولكن النتيجة قد تكون اعادة تسليح المصريين لسيناء. وهو ما يغير الميزان الاستراتيجي. ولكن تسليح المصريين لسيناء سيكون بأسلحة أمريكية ومعتمداً علي ترسانة أمريكا العسكرية ولكن عودة السلاح المصري لسيناء ليست نذير خير لإسرائيل. ونظرة شاملة علي المنطقة تظهر أن مصر ليست الخطر الوحيد علي إسرائيل فسوريا بها ثورة قوامها الأساسي التيار الاسلامي. والخطر علي اسرائيل واضح لو كان التيار الاسلامي هو المسيطر في كل من مصر وسوريا. فربما يعود التحالف بينهما يوماً ويفتح صعود مرسي للسلطة فرصاً أخري للتيار الاسلامي. فتركيا تحكمها حكومة ذات مرجعية اسلامية. وتقاربها مع مصر يزداد كل يوم. ولو قام تحالف بأي صورة مستقبلاً بين مصر وسوريا وتركيا فسيؤثر ذلك حتماً علي الاستراتيجية الامريكية. صحيح ان مصر لا تستطيع حالياً الاستغناء عن المعونة الامريكية العسكرية والاقتصادية. ولكن انتعاشها مستقبلاً قد يأخذ المثل التركي في الاستغناء التدريجي عن أمريكا. وبذلك تصبح اسرائيل حليف أمريكا الوحيد المضمون في شرق البحر المتوسط. وقد لا يكون هناك خطر علي اسرائيل حالياً. ولكن تباعد أمريكا التدريجي عن المنطقة قد يغير علاقتها بإسرائيل مستقبلاً. ومن وجهة نظر اسرائيلية- حتي مع كون اسرائيل القوة العسكرية الاقوي في المنطقة- فإن تغيير السياسة في مصر يجعل المستقبل غير مضمون لإسرائيل. فالخطر الأكبر عليها الآن لا يوجد من جيوش نظامية لدول مثل مصر وسوريا ولبنان. ولكنها تواجه جماعات متطرفة وعمليات ارهابية واحتمالات انتفاضة في كل من غزة والضفة الغربية لا يمكن التكهن بنتائجها. ان أخطر احتمالات المستقبل علي اسرائيل هو قيام دول مواجهة من جديد علي حدودها. وحتي لو كانت هذه الدول مسلحة بأسلحة تقليدية فقد يكون في مقدورها تحدي اسرائيل عسكرياً. ربما لا يكون هذا الخطر في المستقبل القريب. ولكن هناك خطراً علي اسرائيل أن تسمح دول المواجهة أو تتغاضي عن هجمات جماعات متطرفة علي حدود اسرائيل. أو تساعد ثورات فلسطينية ضد اسرائيل. لا يتصور حالياً وقوع حرب نظامية ضد اسرائيل من جيرانها. ولكن استنزافها في هجمات جماعات متطرفة أو ارهابية حولها هو أمر متصور تماماً. يبدو ان اسرائيل مازالت عاجزة عن استيعاب التغيرات الجارية حولها في مصر. خصوصاً في وقت لا يمكن التنبؤ فيه بسياسة أمريكا المستقبلة ومدي التزامها باستمرار حماية اسرائيل. ليس من الواضح ما سيكون عليه مستقبل التوازن في المنطقة. وربما لا يستطيع مرسي فرض سيطرته الكاملة علي مصر. وربما لا يستمر حكمه طويلاً ويتدخل العسكريون ضده مباشرة أو بطريق غير مباشر. ان كل الاحتمالات مازالت قائمة بالنسبة لمستقبل المنطقة مما يجعلها في حالة سيولة سياسية. وإلي هنا ينتهي عرض فريدمان لما يحدث في المنطقة من وجهة نظره. وان كنا نتفق مع معظم ما ذكره فإنه في اعتقادنا قد أغفل شيئاً حيوياً. لم يذكر فريدمان مدي استعداد القوي المدنية في مصر للدفاع عن الدولة المدنية التي استغرق بناؤها قرنين من الزمان منذ حكم محمد علي سنة 1805 ضد محاولات التيار الديني عموماً هدم هذه الدولة وبناء فاشية ترفع راية الدين علي أنقاضها. مثلما فعل النازيون في ثلاثينيات القرن الماضي. ولم يتنبه بأن الوقت في صالح عشرات الألوف من الشباب الوطني الذي فجر الثورة علي قواعد ديمقراطية مدنية. عندما تتجمع قدرات هذا الشباب في حزب سياسي قوي يسترد به ثورته من خاطفيها. ---- نائب رئيس حزب الوفد