يسري الجندي، أحد رواد المسرح المصري الحديث، تميزت أعماله برؤية قومية أصيلة خاصة أنه أحد القلائل الذين استلهموا التراث والموروث الشعبي بتفرد وعرف كيف يطور الشكل المسرحي بما يلائم روح العصر.. أعماله دائما تثير قضايا وربما أزمات سياسية.. مثل مسرحيتي «ما حدث لليهودي التائه مع المسيح المنتظر» التي ظلت لأكثر من ثلاثين عاماً مثار جدل وتم منعها من العرض فوق المسرح لأكثر من مرة.. أشهرها في مركز الهناجر حين تدخلت قوى سياسية عليا ومنعتها وفشل وزير الثقافة وقتها فاروق حسني في عرضها، فقد كان المنع من جهات صهيونية.. حاولت اختراق ثقافتنا وفنوننا.. يسري الجندي قدم للمسرح أكثر من عشرين مسرحية أشهرها «عنترة» «ما حدث لليهودي التائه مع المسيح المنتظر» و«الهلالية» و«ورابعة العدوية» و«المحاكمة» و«على الزيبق» و«واقدساه» و«الساحرة» مثلت أعماله مصر في مهرجانات عربية وعالمية مثل مهرجان «قرطاج» ومهرجان «بغداد» و«دمشق» وقدم للدراما مجموعة مسلسلات تليفزيونية أشهرها «جحا المصري» و«الطارق» و«نسيم الروح» و«ناصر» و«سقوط الخلافة». قلت ليسري الجندي: كيف ترى المشهد السياسي الراهن في مصر؟ - كلنا لازلنا مجمعين أن بداية الثورة لحظة فارقة ومبهرة بلا شك، فارقة بمعنى أنها تفصل بين هذه اللحظة وبين آلاف السنين وراءها.. أي أنها نقلة نوعية في التاريخ المصري ولكن بقدر اجتماعنا حول هذه اللحظة، بقدر ما تكالبت قوى كثيرة جداً على إلغاء هذه اللحظة من ذاكرة الزمن، فما الذي أوصلنا الي هذا الموقف المأزوم، على نحو غير مسبوق؟!.. أرى أن النتيجة طبيعية إذا نظرنا الى الموضوع من أوله.. مثلما قلت قبل تنحي مبارك، قلت في جريدة «الشروق» لقد وصل بنا التفاؤل بالثورة أن قلت أن شباب مصر يعيد صياغة العالم من ميدان التحرير.. هذا التفاؤل الذي يبدو أنه مبالغ فيه كان احساسي الحقيقي لكل من عاش هذه اللحظة.. فيبدو أن فرحتنا بهذه اللحظة أنستنا أن صانعي الثورة لابد أن يقودنها، ولكن المؤسف أن الثورة سُلمت الى المجلس العسكري وترتب على ذلك مجموعة من الأخطاء فقد بدأنا بأمرين، كل منهما خطيئة.. الأمر الأول عدم التخلص بشكل جذري من النظام القديم.. لأن الثورة هدم وبناء فتركنا أطراف وزوائد وأظافر ومخالب كثيرة جداً، مازالت مغروزة في جسم الوطن.. إذن لم يحدث تطوير حقيقي وهذا أول مبدأ في الثورة.. أما البناء فقد بدأناه خطأ، بدأنا متناسين أن الدستور أولاً.. كان لابد من الاستقرار على مسألة الدستور ولا أتكلم عن هويته.. هذا أمر تم تجاهله.. عن عمد وترتب عليه أولى خطوات الهلاك، من خلال لجنة طارق البشري التي أقامت الاستفتاء، ثم بعد أن بدا أن الاستفتاء به عوار، قاموا بعمل التعديلات الدستورية وهى أكثر من التي تم الاستفتاء عليها وكانت بضعة بنود هى التي تم الاستفتاء عليها، وبهذا فتح الطريق لكل أعداء الثورة.. كل ما دفعناه من ثمن الشهداء وكادت أن تحدث فتناً طائفية.. وبداية تصدع الأمن وتصدع الاقتصاد والارتباك السياسي كل هذا بدأ من النقطتين: الاستفتاء المضلل وتجاهل التطهير الكامل، وهذا الكلام بالمناسبة كانت في حسابات الجماهير وكانت الناس واعية لما يحدث ومتيقظة جداً لكل خطوة.. ولكن للأسف كان هناك سلبيات كثيرة تحاصرنا.. وأنا واحد من الناس كتبت حوالي 15 مقالا أحذر فيها من البداية الخطأ التي حدثت.. البداية الكارثية التي ظهرت منذ تكوين اللجنة التي يرأسها طارق البشري هى التي أرادت أن تسرع الخطى نحو التيارات الدينية.. أو بالدقة الاخوان المسلمين نحو البرلمان، رغم أن الطريق الى البرلمان بدون دستور.. وأيضاً قضية الرئاسة مع تقييد الاختصاصات، أنت إذن كأنك تتحرك في فراغ. التشكيك في الثورة كيف تسللت الثورة المضادة الى وجدان الجماهير ودغدغت عواطفهم؟! - أنا أعتقد أننا لو نظرنا الى التداعيات التي حدثت في أعقاب ثورة 25 يناير، نعرف أن هناك تحولات كثيرة يمكننا أن ندرك معناها الآن، في بداية الثورة لم يكن يجرؤ أحد من النظام القديم أن تسمع صوته، وانتهى الأمر أن ارتفعت أصواتهم، اعتماداً على التشكيك في الثورة واستغلوا أن الناس عانت ليس من الثورة ولكن مما استطاعت الثورة المضادة أن تحققه، هم الذين أحدثوا أزمة الأمن والارتباك السياسي والأزمة الاقتصادية.. ثم استغلوا هذا في تشكيك الناس في الثورة.. هذا التشكيك لم يكن هو السلاح الوحيد.. ولكن المؤسف أنهم نجحوا في اغراضهم الى حد كبير حتى أن كثيرين نسمع منهم من يقول: أن عصر مبارك كان أفضل وهذا خطر، هذا التشكيك الذي وصلنا اليه هو مصيبة لأنه يصب في كبد الثورة، وجدوي الثورة.. اعتماداً على المعاناة، وثانياً اعتماداً على أن الوعي العام للجماهير العريضة كان يقع تحت محاولة طمث العهود السابقة، حتى وصل الأمر أن هددوا الناس منذ بداية الاستفتاء الكاذب حيث أوهموهم أن من يقول «نعم» سيدخل الجنة ومن يقول «لا» سيدخل النار!!. وفي نفس الوقت كانت هناك أفكار قد عفى عليها الدهر.. هي التي سادت.. أنا شخصياً كتبت عن الشيخ علي عبد الرازق مقالين حول كتابه العظيم «الاسلام وأصول الحكم» وهذا الرجل أحد أعلام الأزهر الشريف، الأجلاء.. قال: علي عبد الرازق لا توجد خلافة اسلامية، والاسلام لا يعرف الا الدولة المدنية، ودلل على ذلك بشكل دامغ ورجوعاً الى كل المرجعيات الاسلامية، هنا هم اعتمدوا على أننا وقعنا كشعب لفترة طويلة تحت تأثير الافكار الغربية على العقلية المصرية والعقل المصري وسطا متسامح وبسيط. كيف استفاد المتآمرون ضد الثورة من آلاعيب عهد مبارك؟ - في فترة حكم حسني مبارك، حدث خلل فكري وتدهور أخلاقي بخلاف دور الثقافة التي تم تهميشها تماماً وأشاعوا كل ما هو تافه وسطحي في الفن والفكر والثقافة والدلائل على هذا كثيرة جداً.. كل ما هو جاد كان يواجه إما بالتسطيح وإما بالعقاب.. وهذه الاشياء هي نفسها التي اعتمدوا عليها في المرحلة الأخيرة، حيث استغلوا المعاناة التي تعيشها البسطاء والارتباك السياسي والذي بدأ مع الثورة.. كأنها حالة من الفوضى، أكثر من أنها محاولة تغيير حقيقي، وأنا أعتب على الثوار في أكثر من نقطة، أولها التشرذم سواء من الطلائع الشابة أو النخبة السياسية.. أو القوى السياسية، ولا أتحدث عن أحزاب لأنه لم تكن هناك أحزاب، فالأحزاب خربت في عهد مبارك تماماً.. وبعد الثورة لم يستطع الثوار أن يلتحموا الالتحام الحقيقي، مع الجماهير.. ولم يستطيعوا أن يأخذوا طليعة الثورة الجادة للتغيير، وكل ذلك استغل في تشويه الثورة وتشويه صانعيها وهذا ما وصل بنا الآن إلى أن نجد أنفسنا أمام هذا التخبط السياسي، ورغم أن الصورة قد تبدو شديدة التعقيد والبؤس الا أن هناك يقينا لدىَّ أنا شخصياً أنه لن نعود أبداً للحكم الاستبدادي، أياً كانت النتائج وأياً كانت الثمن الذي سندفعه، لن نعود الى الحكم الاستبدادي مرة أخرى سواء استبداديا فرديا أو جماعيا أو طائفيا. كيف تفسر ظاهرة حمدين صباحي؟ - ظاهرة حمدين صباحي تؤكد أن امكانية ظهور وجه يمثل الحركة الوطنية بشكلها الحقيقي ولا أقصد به أنه امتداد لثورة يوليو فقط أنا أقصد أنه امتداد للحركة الوطنية التي كان هدفها الاساسي على امتداد قرنين، وهو يمثل نموذجا ينطوي على احتياجات العصر نفسه.. بمعنى آخر اذا قلنا أنه يؤكد على بعض الثوابت في تجربة يوليو فهو متجاوز لها لأنه تجاوز فكرة الزعامات الفردية أنه ينتمي الى وجه ديمقراطي في طليعة الشعب المصري. يعد مسرحك ملمحاً مهماً من ملامح الثقافة القومية للوطن فهو قدم مثلاً علياً للحياة.. ما رأيك؟ - ليس أنا وحدي.. المسرح الحقيقي بطبيعته له وظيفة اجتماعية بالضرورة، وبالتالي نجد رموزه المهمة سواء جيل الستينيات أو ما قبلهم أو ما بعدهم.. كل من يحتسب كاتب مسرح، لابد أن يكون مدركا لوظيفة المسرح تجاه الواقع والانسان.. مهما تباينت الرؤى عند هذا وذاك، صعوبة المسرح في الانواع الدرامية، أنه إذا افتقد روح الشعر افتقد ركناً مهماً من اركانه وهذا ثبت من أول بدايات المسرح ولا أعني بالشعر - الشعر نفسه - نعمان عاشور أبو الواقعية أجد روح الشعر ليس فقط في اللغة ولكن في الشخصيات والرؤى وغير ذلك.. هذا البعد في الكاتب المسرحي مهم جداً ويعتبر شيئاً نادراً. في العهد السابق خلال الثلاثين عاماً، انتصر مسرحك للبسطاء وكان دائما مشتبكاً مع السلطة.. حدثنا عن ذلك؟ - لا أستطيع أن أتحدث عن مشوار بالكامل ولكن عندي أمثلة - معركتين أو أكثر - المعركة الأولى كانت مسرحية «علي الزيبق» قدمناها في اوائل السبعينيات، أنا وعبد الرحمن الشافعي وكادت أن تتوقف ومن وقف بجانبها كان الراحل سعد الدين وهبة أما تجربة الصدام الثانية فقد امتدت من سنة 1972 حتى 2007 من خلال مسرحية «ما حدث لليهودي التائه مع المسيح المنتظر»، معركة امتدت لأن المسرحية تطرح قضايا تتأكد في كل مرحلة، فأوقفت في أول مرة بمسرح الحكيم في ليلة «الجنرال»، ثم عندما قدمتها فرقة بورسعيد وهي فرقة اقليمية وتم اختيارها لمهرجان بغداد منعت وتدخل سعد الدين وهبة ونجح في سفر المسرحية. أما المعركة الثالثة لنفس المسرحية فكانت عام 2007 لما أدرجتها الدكتورة هدي وصفي تحت اسم «القضية 2007» إخراج حسن الوزير، وحققت نجاحا كبيرا وتأكد ما قلناه، فالمسرحية التي كتبتها عام 1968 وكان عندي 28 عاما لا تزال تثير الجدل فقد أتت تعليمات لا أعرف من أين أتت وأوقفوا هذا العرض؟!.. لم تعد أجهزة داخلية فقط بل تدخلت إسرائيل في الشأن الثقافي علي عينك يا تاجر.. بدليل أن وزير الثقافة فاروق حسني حاول وقتها إنقاذ المسرحية ولكنه لم يفلح لكن ليست القضية إيقاف عرض، القضية تخص الوضع الثقافي بشكل عام.. إن هذا النظام كان يحاول تهميش الثقافة والمثقفين.. مبارك لم يكن يكره أحدا مثل المثقفين ومنع توزيع جوائز الدولة.. كراهيته كبيرة ولهذا فقد احتوي نظامه عددا كبيرا من المثقفون وتهجنوا والباقين همشوا وتم تجاهلهم وأنا أيضا واجهت هذه المشكلة في التليفزيون فقد عانيت من تهميش مسلسلي «الطارق» و«جمهورية زفتي». السير الشعبية ونكسة يونيو 1967 ماذا يعني استعادة الموروث الشعبي في أعمالك.. خاصة استلهام السير الشعبية وألف ليلة وليلة؟ - استلهام ألف ليلة وليلة محدود بالنسبة لأعمالي، ولكن الذي مثل إضافة هو استلهام السيرة الشعبية مثل السيرة الهلالية وعنترة وعلي الزيبق والظاهر بيبرس وهكذا.. وهنا نرجع الي أصل السؤال لماذا؟ وهذه مرتبطة بنكسة 1967 وبداية البحث عن الذات كانت معركتنا الكشف عن اليهود هي معركة حضارية وبالنسبة للتراث فهو يتعامل مع مشكلة الشكل لأنك خاضع للشكل الغربي أردت أو لم ترد.. لكن التراث يساعد علي خصوبة الشكل ليكون مصرياً خالصاً أو عربياً خالصاً ولكن له خصوصية. ماذا بقي من هؤلاء: يوسف إدريس، نجيب محفوظ، ألفريد فرج، محمود دياب، لطفي الخولي؟ - باقون جميعا لأن كل واحد منهم له إبداع خاص وإضافة كبيرة للتراث المصري. يوسف إدريس: كان يعتبر «الفرافير» شكلاً مصرياً خالصاً وثبت أن هذا غير صحيح ولكنه لم يفلت من الشكل الغربي وقدرته علي احتواء قضايا بعينها مثل قضية الفرد والجماعة لا تظهر إلا من خلال بعض موضوعات السير الشعبية بالذات، وهو يذكرني بقامة كبيرة في القصة القصيرة في العالم، تشيكوف وكان يجمع بين القصة القصيرة والمسرح. نجيب محفوظ: بغض النظر عن نوبل فهو ظاهرة في تاريخ الرواية العربية مثل ديستويفسكي ومحفوظ ظاهرة قل أن تتكرر. ألفريد فرج: أستاذ وجيلنا يدين له بالمسرح وهو مدرسة وحده، هو امتداد لمدرسة التراث في المسرح، تعلم علي يد الشوام وإن كان منحاه يميل الي عالم شكسبير وليس العالم الشعبي الذي ميز الرواد السابقين. محمود دياب: كاتب مقتدر وأيضا مساحة التنوع عنده جيدة وطاقة لم يتسع لها الواقع فضاق بالواقع وهو من النماذج التي نتأمل لها أنه لم يستطع أن تتحمل حدة رؤيتها للواقع، دياب ذو بصيرة قوية نافذة وهذا ما أتعبه فهو يذكرنا بالشاعر الجميل نجيب سرور. لطفي الخولي: لا أصنفه علي الإبداع.. هو مفكر سياسي.