قضية العدالة الاجتماعية وحرية الإنسان هما مداد قلمه, والقاسم المشترك في كل مسرحياته, وعندما يتفاعلان تري خشبة المسرح كأتون مشتعل بفعل تحور في البطل الملحمي, ومن حوله الجموع مثل علي الزيبق وعنترة وأبوزيد الهلالي. تلك القضية مهيمنة علي فكره المسرحي باعتبارها غاية ووسيلة, وبافتقادها تصاب المباديء الإنسانية في مقتل, ويصبح مد جسور إبداعية لتفعيل قوي الحق والخير والجمال أمرا حتميا. والثورة في مسرح يسري الجندي تجيء دائما من رحم التاريخ, الشعب فيها يدفع بالبطل الحقيقي ليحقق حلمه في الخلاص, ولكنه يفشل لأنه عندما ينطلق لا يري من حوله وتأخذه الأنانية إلي هوة سحيقة تنتهي عندها جذوة أطماعه. ثورة25 يناير جاءت بفعل الجموع, بينما الثورة في مسرحك مرتبطة بالبطل الملحمي, والجموع في الخلفية؟ المجتمع المصري علي مر التاريخ ارتبط بالحاكم الفرد كجزء من تكوينه العقلي والوجداني, وهذه الفكرة ظلت مسيطرة في أدبيات السلطة والتراث الشعبي, فالجماعة تحمل البطل كل أحلامها ومسئولية الفعل, وقد تناولته في مسرحياتي بشكل نقدي, معتبرا أنه رهان خاسر لأنه إذا كان البطل الفرد هو إفراز طبيعي لوضع تعانيه الجماعة فإن انفراده بالمواجهة والحلم والإنابة عن الجماعة يترتب عليه إقصاؤها, وهو ما يتسبب في المأساة وتنحية الديمقراطية التي تقضي بالمشاركة الشعبية عن اتخاذ القرار والاكتفاء فقط بالالتفاف حول الرمز جعل من السهل ضرب الثورة, كما حدث في مسرحية عنترة عندما تخلي عن حرية الجموع وتخلي عن حلمها. مادام مضمون مسرحياتك يتبني الفعل الثوري كحل حتمي طلبا للحرية والعدالة. ألم يكن من الأفضل أن يحتويه شكل ثوري أيضا؟ أظن أنني اجتهدت كثيرا في تثوير التراث المسرحي ومفرداته, فمثلا الكورس في مسرحية عنترة قاموا بدور العبيد الذين تنكر لهم عنترة. وفي مسرحيات أخري لعبوا دور المهرجين والفلاسفة والممثلين.. إذن فقد تنوعت لغة الكورس, بل وتعددت مستويات اللغة خاصة في مسرحية الهلالية من عامية دارجة إلي عامية راقية إلي فصحي ثم إلي شعرية خالصة. لقد حاولت تأصيل الشكل المسرحي في إطار المضمون. مسرحية واقدساه برغم كونها أول عمل بانورامي لتاريخ القدس, فإنها جاءت مزدحمة بالأفكار غير المرتبة ودون تسلسل في الأحداث ودون خط درامي واضح؟ واقدساه مسرحية كتبت نتيجة لانفعال غير عادي باللحظة التاريخية, وكانت أول عمل مسرحي لاتحاد الفنانين العرب بمناسبة اندلاع انتفاضة الحجارة الأولي بفلسطين, بالتالي ظهرت في شكل فورة علي المسرح أكثر منها عملا فنيا مركبا هندسيا بشكل محكم ولم تأخذ وقتا كبيرا في كتابتها كعرض يراه الجمهور احتفالا بهذه المناسبة. ولكن شخصية صلاح الدين الأيوبي بدت لاهية وعابثة ومخدوعة؟ بالفعل ظهرت شخصية صلاح الدين علي هذا النحو, وقد أثارت ردود فعل نقدية حادة, ولكن النقاد لم يكلفوا أنفسهم عناء قراءة تاريخ هذا القائد جيدا. فقد كان لاهيا عابثا في ريعان شبابه, ولكن عندما جاء إلي مصر مع عمه أسد الدين شيركوه بدأ يرصد الصراع علي السلطة وانتبه إلي خطورة انتقال هذه الظاهرة إلي العالم العربي إلي أن وجد نفسه طرفا في هذا الصراع فسارع إلي إعادة ترتيب البيت من الداخل, ومن هنا تبلورت شخصية صلاح الدين الخالدة واتجه لتصفية الصليبيين وبؤر الفساد في الجسد العربي. شخصية الأباصيري بيه في مسرحية بغل البلدية أثارت حيرة الجمهور, تارة يغيب عن الوعي, ويصدر قرارات إيجابية, ثم عندما يستفيق يعدل عنها؟ الأباصيري هو المعادل الموضوعي للاتحاد الاشتراكي الذي لم تتسق أفعاله مع أقواله, فكنا نستمع إلي قراراته فنشعر بالديمقراطية, وعندما نري أفعاله نرتد إلي ديكتاتورية الحزب الواحد, مما لفت الأنظار إلي المسرحية وأرادوا إيقافها لولا أن تصدي لهم ضياء الدين داود. بنبرة متشائمة تردد منذ سنوات أن المسرح قد مات.. لماذا؟ المسرح دائما هو عنوان الحيوية أو الموت للحالة الثقافية, وكنا قد وصلنا بالفعل إلي حالة الموات خاصة مع تهميش شبه كامل للعناصر الفاعلة في الحياة الثقافية, وكانت آخر لطمة لي في هذا الشأن هي إيقاف مسرحية القضية2007 أو اليهودي التائه, وإغلاق مسرح الهناجر بعدها. وأخيرا.. كيف يعود المسرح إلي الواجهة؟ مع عودة الروح مرة أخري للجسد المصري وجدانا وعقلا أعتقد أن الحياة تدب في المسرح ولكن بعد حين, وشأن كل ثورة علينا أن ننتظر لفترة حتي تتبلور صورة النظام الجديد, ولكن ليس في شكل دعائي, بل لابد أن يكون الإبداع متجاوزا الواقع الثوري.