تناول الكثير من المعلقين العديد من جوانب وأبعاد ما حدث على مدار الشهور السابقة من تصاعد في حوادث الدهس والطعن في بلدان غربية، سواء تجاه مواطنين عاديين، بينهم في بعض الحالات عرب أو مسلمون، أو رجال شرطة أو سياح أجانب. ولكن هناك بعد مهم لتداعيات تلك الحوادث، وأعني تأثيرها على ابناء الجاليات العربية المقيمين في البلدان الغربية ممن حصلوا على جنسيات تلك البلدان أو غيرهم من المقيمين من العرب هناك، سواء من الجيل الأول أو من الأجيال التالية. فلا شك في واقع أن غالبية حوادث الدهس والطعن تلك ادعت المسؤولية عنها جماعات متطرفة تحمل شعارات إسلامية، سواء كان ذلك الادعاء صحيحاً أم لا، كما نفذ معظمها أفراد يحملون أسماءً عربية، مثَّل تحدياً للجاليات العربية، ووضعها في مأزق شديد التعقيد. هذه الجاليات كانت، خصوصاً منذ هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في أميركا وما تلاها من هجمات في بلدان أوروبية، موضع اتهام ومحل تشكيك في ولاءاتها لبلدانها الجديدة، بسبب عمليات العنف التي مورست باسم الإسلام، بخاصة تلك التي مورست خارج حدود الوطن العربي والعالم الإسلامي. وجاءت هذه الاتهامات من قطاعات أخرى من مواطني البلدان ذاتها أو من قطاعات من النخب فيها أو من بعض أجهزة الإعلام، إذ اعتبرتها دوائر عدة أنها لم تندمج في أوطانها الجديدة، وأنها في معظمها تعيش على هامش هذه المجتمعات ولا تحفل بقضاياها، بل تمنح الأولوية لقضايا البلدان التي أتت منها. ويلاحظ تأثر هذه الجاليات بتحولات اجتماعية وثقافية في مجتمعاتها الأصلية على مدار نصف القرن الأخير، بما في ذلك تراجع النزعات العلمانية أو الليبرالية أو اليسارية أو التحديثية، مقابل تصاعد النزعات المحافظة. وتعمَّق هذا التأثر بمعايشة موجات الهجرة في شكل مباشر هذه التحولات المجتمعية في الوطن العربي، ومن ثم نقلت لاحقاً هذا التأثير إلى الجاليات العربية أو ذات الجذور العربية في المجتمعات التي هاجرت إليها في الغرب. من جهة أخرى، سعت الجاليات العربية في المهجر، حتى غير المسلمة منها، إلى الحفاظ على تراثها الثقافي الذي رأت فيه عنصراً يميزها عما حولها في مجتمعاتها الجديدة من ناحية وعنصر حماية لهوياتها الأصلية من ناحية أخرى. واستهدف هذا المسعى أيضاً ضمان استمرار التعلق بهذه الهوية الثقافية الأصلية والتمحور حولها من قبل الجيل الثاني والأجيال التالية له من أبناء الجاليات العربية في المهجر. وأدت هذه النزعة في بعض الأحوال إلى أن بعض أبناء تلك الجاليات، وإن كانوا أقلية محدودة، ممن يحملون جنسيات الدول الغربية، سواء من الجيل الأول من المهاجرين أو من الجيل الثاني وما بعده، تبنوا أفكاراً متطرفة أو متشددة في إطار تفسيرهم لموروثهم الديني والثقافي الإسلامي، ما جعل هؤلاء متعاطفين مع الأفكار التي تحاول صبغ المشروعية على أعمال العنف والإرهاب المنسوبة إلى بعض المحسوبين على الإسلام من جهة، وهدفاً للحملات الدعائية ومحاولات التجنيد والتعبئة للمؤيدين والتابعين من جانب الجماعات التي تتبنى هذه الأفكار وتقوم على تنظيم هذه العمليات من داخل العالم العربي أو الإسلامي أو من خارجهما من جهة ثانية. ولكن حوادث الدهس والطعن التي وقعت خلال الشهور الماضية جعلت معاناة الجاليات العربية في المهجر، خصوصاً في أوروبا وأميركا الشمالية، أكثر صعوبة وتعقيداً، كما جعلتها تواجه تحديات عدة. فقد تضاعف السعي للخلط بين الهجوم على العنف والإرهاب من جهة، وبين الهجوم على الإسلام كدين وعلى الحضارة العربية الإسلامية كحضارة وثقافة من جهة ثانية، وبين تصعيد الاتهام للجاليات العربية والإسلامية في أوروبا وأميركا بأنها باتت تمثل حاضنةً لذلك العنف والإرهاب، أو على الأقل للفكر المولد لتلك الحوادث والاعتداءات، سواء من حيث التعاطف المعنوي في شكل عام أو من ناحية الدعم اللوجيستي والمعلوماتي، أو من جهة مشاركة عدد من أبناء تلك الجاليات في تنفيذ بعض هذه العمليات بشكل مباشر من جهة ثالثة. كذلك تعين على قيادات تلك الجاليات اتخاذ موقف واضح في إدانة الهجمات وشجب الربط بين الفكر الواقف وراءها وبين الفهم الصحيح للإسلام، بغرض إزالة أي غبار عن فهم تلك الجاليات لموروثها الديني والثقافي وإبراز انحيازها للتفسيرات الوسطية المعتدلة، وللتأكيد على انتماء تلك الجاليات للمجتمعات التي هاجرت إليها وحظيت بدرجة عالية من الأمن فيها، وإن بدرجات تفاوتت من مجتمع إلى آخر، وكذلك على ولائها لبلدانها الجديدة ولنظمها القانونية. ولكن لدى تبني هذه المواقف الشاجبة لتلك الاعتداءات، لزم أيضاً على الجاليات العربية في المهجر الإشارة إلى اعتداءات مماثلة وقعت، وكان ضحاياها من العرب والمسلمين، وكان منفذوها من خلفيات اليمين المتطرف في بعض البلدان الغربية. وفي سياق عملية الإدانة تلك، كان على تلك الجاليات التأكيد على أن هذه الإدانة لا تعني فك الارتباط بينها وبين أجيالها الثانية والتالية لها من جانب وبين موروثها الحضاري والثقافي من جانب آخر، وإنما تبيان أن الهدف هو تحرير هذا الموروث من محاولات الأقلية، اختطافه واحتكاره، وتفسيره بما يسير به بعيداً من وجهته الأصلية، وبما يخدم أهدافاً عقائدية تقتصر على هذا البعض من دون غيره، والعودة بهذا الموروث ليصبح ملكاً مشتركاً لكل من ينضوي تحت لوائه، بما لا ينتزعه بعيداً من جوهر رسالته الداعية إلى السلم والتسامح والاحترام المتبادل مع الآخر والحوار والتعاون البناء، وبما لا يتناقض مع المبادئ التي استقرت المجتمعات البشرية على الاتفاق عليها كأسس للتعايش. هذه التحديات لا تبدو سهلة على الإطلاق، وتحتاج إلى الكثير من العمق الثقافي من جانب هذه الجاليات من جهة، وإلى مهارات اتصالات اجتماعية وإعلامية للتفاعل مع المجتمعات التي تعيش فيها من جهة ثانية، ودعم من المجتمعات العربية ومؤسساتها الدينية والفكرية من جهة ثالثة. وتبدو تلك المهمة شاقة وصعبة ولكنها ليست عصية على الإنجاز، بل هي حتمية وستكون تاريخية أيضاً حال إنجازها، كما أن القيام بها وتحقيقها اليوم هو بالتأكيد أفضل من تأجيلها، لأن ذلك سيجعل المهمة أكثر صعوبة في المستقبل، في ضوء تضاعف العوائق أمام تحقيقها وزيادة معاناة الجاليات العربية في بلدان المهجر لجهة تصاعد الاتهامات والتشكيك في جدية انتماءاتها للمجتمعات التي استقرت فيها، إضافة إلى المزيد من التدهور في جوهر العلاقة بين العروبة والإسلام وأبنائهما من جهة، وبقية مكونات البشرية من جهة أخرى. نقلا عن صحيفة الحياة