من المنظور التاريخي، كان للثقافة العربية، ليس فقط وجود، بل مصادر عطاء وإثراء، خارج الوطن العربي، وفي شكل أكثر خصوصية في البلدان التي استقرت فيها منذ فترات مبكرة جاليات عربية بأعداد كبيرة ولفترات ممتدة ومتواصلة زمنياً، بل أتى الكثير من رموز الثقافة والفكر العربيين، بخاصة منذ القرن التاسع عشر، من صفوف الجاليات العربية المقيمة في بلدان المهجر. وكانت لهذا الأمر أسباب وجيهة في بدايات حدوث هذه الظاهرة في القرن التاسع عشر، حيث تضمنت تلك الأسباب ارتباط الهجرة من الوطن العربي بالرغبة في الفرار من الاضطهاد الذي تعرضت له أقليات غير مسلمة في الوطن العربي خلال خضوع غالبية أرجاء الوطن العربي لسيطرة الدولة العثمانية، خصوصاً في الإقليم الجغرافي الذي كان يعرف تقليدياً ببلاد الشام، وبالتالي تضمنت صفوف المهاجرين أعداداً لا بأس بها ممن ينتمون إلى ما يمكن تسميته النخبة الثقافية في المجتمعات العربية الأصلية التي هاجر منها هؤلاء. وكانوا قد أبدعوا في مجتمعاتهم الأصلية، كما تجلى جزء من إبداعهم في المجتمعات التي هاجروا إليها، وتأثرت هذه الإبداعات الأخيرة أيضاً بالبيئات الاجتماعية والثقافية المحيطة بهم في مجتمعاتهم الجديدة وما أفرزته من معطيات فكرية واتجاهات ثقافية وفنية.
وفي الأزمنة المعاصرة، بخاصة على مدار العقود الخمسة الأخيرة، ازداد ما يمكن أن نطلق عليه، إذا جاز لنا أن نستعير بعض مصطلحات لغة الاقتصاد، مع الإقرار المسبق بالاختلاف بين طبيعة وبنية الاقتصاد والثقافة، «الطلب» في أوساط الجاليات العربية في بلدان المهجر، بخاصة في البلدان الأوروبية والأميركية، على المنتجات المتنوعة للثقافة والفنون العربية التي تخرج من المجتمعات العربية على خلفية الرغبة في تحقيق فهم أعمق بهذه الثقافة من جانب عرب المهجر بأجيالهم المتتالية من جهة، كما تعاظمت مساهمة تلك الجاليات وتأثيرها في تطور الثقافة العربية من حيث الشكل والمضمون، وذلك من خلال مداخلات أدبية وشعرية ونقدية وفنية متنوعة من جانب عرب المهجر، مثلت من دون شك إضافة على الصعيد النوعي، وليس الكمي فقط، لمخرجات الثقافة العربية من جهة أخرى.
ولا تعتبر الثقافة العربية أحد الروابط بين عرب المهجر، بخاصة الأجيال التالية لمن هاجروا، وبين أوطانهم الأصلية فقط، بل إن لها دوراً لا يمكن تجاهله في الحفاظ على اللغة العربية بين أبناء العروبة في بلدان المهجر من ناحية، وتعريف عرب المهجر بما يحدث في مجتمعاتهم الأصلية من تطورات تعكسها الأشكال المختلفة للتعبير الثقافي والفني من ناحية أخرى. إضافة إلى هاتين الوظيفتين، توفر الثقافة العربية لعرب المهجر قنوات للتعبير، بلغتهم الأم، عن إبداعاتهم الفكرية والثقافية الناتجة عن مزيج ثري من تفاعلهم مع حياتهم الجديدة في مجتمعات بلدان المهجر وذكرياتهم القديمة في أوطانهم الأصلية، أو على أقل تقدير توافر الفرصة لترجمة هذه الإبداعات إلى اللغة العربية ونشرها بمختلف الوسائل المتاحة داخل بلدانهم الأصلية والوطن العربي الكبير.
وقد أثبتت تجارب الماضي البعيد والقريب وجود حاجة ملحة لقيام المؤسسات القائمة على أمور الثقافة والفنون في البلدان العربية، سواء كانت حكومية أو مجتمعية، وسواء كانت داخل دولة عربية واحدة أو جزءاً من تجمع مؤسسي عربي، بتقديم أشكالٍ من الدعم للمؤسسات الطوعية المعنية بالحفاظ على الثقافة والفنون العربية والترويج لها، هي التي تقيمها الجاليات العربية في بلدان المهجر، وذلك بعد التشاور المسبق مع هذه الجاليات حول الصور الملائمة والمطلوبة والفعالة لهذا الدعم، وذلك حتى لا يبدو الأمر كأنه تدخل في شأن داخلي لهذه الجاليات أو في شأن داخلي للمجتمعات التي تقيم فيها، وعلى أن يصب هذا الدعم أيضاً في مصلحة تعزيز التفاهم المتبادل بين الجاليات العربية وشعوب البلدان التي يقيمون فيها ويحقق فهماً أفضل لدى هذه الشعوب لمكونات الثقافة العربية في أطوارها المختلفة، ولعطاء تلك الثقافة في الحقب التاريخية المتعاقبة لمصلحة الحضارة الإنسانية بوجهٍ عام. ومع تصاعد بعض الاتجاهات المعادية للعرب والمسلمين في عدد من المجتمعات التي تقيم فيها جاليات عربية كبيرة، بخاصة على مدار العقود الثلاثة الماضية، بدا الاهتمام بوجود الثقافة العربية في بلدان المهجر واستيعابها للعطاء الفكري لعرب المهجر مهمة أكثر ضرورة وإلحاحاً. وكان من مظاهر هذا الاهتمام والتفاعل هو المشاركات العربية في معارض الكتب العالمية التي تقام في عواصم أو مدن مهمة في العالم غير العربي، ليس فقط بغرض عرض الإنتاج الفكري للثقافة العربية في صورة كتب ومطبوعات، ولكن أيضاً، وبالدرجة نفسها من الأهمية، نظراً إلى ما يصاحب هذه المعارض عادة من فاعليات ثقافية مثل الندوات والحلقات النقاشية وحفلات توقيع الكتب من جانب مؤلفيها، إضافة إلى تظاهرات فنية مصاحبة لهذه المعارض، وهو الأمر الذي يجعل من هذه المناسبات عرساً ثقافياً حقيقياً وفرصة لا يجب تفويتها أمام الثقافة العربية وإنتاجها، ليس فقط للتواصل مع عرب المهجر، بل أيضاً للتفاعل مع الثقافات الأخرى التي تعرض إنتاجاتها في تلك المعارض.
ومن المعارض الدولية المهمة للكتاب في القارة الأوروبية معرض جنيف الدولي، والذي انتهت دورته الأخيرة منذ أيام بمدينة جنيف. وما يعنينا هنا أن هذا المعرض تميز بأنه شهد للعام الثاني على التوالي جناحاً كبيراً مستقلاً داخل جدرانه باسم «جناح الثقافة العربية»، وكان أكبر مساحة وأكثر زخماً من الجناح الذي كان موجوداً في المعرض نفسه في العام الماضي. ولم يكن هذا الجناح في أي مرحلة مكاناً لتجميع أجنحة مختلف الدول العربية المشاركة في المعرض، بل إنه لم يأت أصلاً بناء على أو تلبية لمبادرة أو طلب من دولة عربية أو مجموعة من الدول. فقد نشأت فكرة الجناح من جانب عدد من الفاعليات الثقافية العربية الموجودة في سويسرا، وفي شكل أكثر تحديداً في مدينة جنيف، وكذلك بالتعاون البنّاء ورد الفعل الإيجابي من جانب حكومة كانتون جنيف، ومن بين تلك الجهات العربية غير الحكومية المتبنية فكرة «جناح الثقافة العربية» بمعرض جنيف الدولي للكتاب، كان معهد الدراسات العربية والمتوسطية والمكتبة العربية وغيرهما من هيئات نشأت في مراحل تاريخية مختلفة داخل إطار الجالية العربية في سويسرا وبجهود ذاتية لأبناء هذه الجالية، وعبر تعاطف معنوي، بل وأحياناً تعاون تنظيمي ودعم مادي، من جانب قوى من المجتمع المدني السويسري ترى في تعزيز وتمكين التعددية الثقافية واللغوية مصدر ثراء وقوة، وليس سبباً للخوف أو القلق. بينما على الجانب الآخر، يكاد يكون الدعم المقبل من داخل الوطن العربي لهذه الهيئات والمبادرات التي تخرج عنها، مثل «جناح الثقافة العربية» بمعرض جنيف الدولي للكتاب، محدوداً في بعض الأحيان وغائباً في أحيان أخرى.
وإلى جانب عرض الكتب العربية وتلك المترجمة عن العربية إلى لغات أخرى، بخاصة اللغة الفرنسية، وتلك الصادرة عن كتاب عرب بلغات غير عربية، حافظ «جناح الثقافة العربية» للعام الثاني على التوالي على ميزة وجود برنامج ثري ومتكامل للندوات والحلقات النقاشية واحتفاليات توقيع الكتب الجديدة مع الكتاب والأدباء والشعراء العرب المقبلين خصيصاً لهذا المعرض من مختلف مناطق الوطن العربي أو من العرب المقيمين في بلدان المهجر، مع وجود ترجمة فورية لهذه اللقاءات باللغة الفرنسية بما يشكل عنصر جذب للزائرين السويسريين والأجانب، إلى جانب الزائرين من أبناء الجاليات العربية بسويسرا وفرنسا بطبيعة الحال.
إضافة إلى كون «جناح الثقافة العربية» بمعرض جنيف الدولي للكتاب يمثل عنصر جذب للمقيمين أو الزائرين العرب والأجانب للمدينة السويسرية وما يجاورها من مدن سويسرية أو فرنسية، فإنه عبر نجاح منظميه في الحفاظ على وجوده للعام الثاني على التوالي، يؤسس لكي يكون معلماً رئيسياً وثابتاً من معالم المعرض، يعتاد على وجوده الناشرون الآخرون والزوار، سواء من العرب أو السويسريين أو من الجنسيات الأخرى. ولهذه الاستمرارية انعكاساتها الإيجابية على مجمل الحالة الثقافية العربية بسويسرا، وعلى وضعية الجالية العربية فيها، وكذلك لها تداعياتها المشجعة بالنسبة لأنشطة ثقافية وفنية عربية أخرى ذات طابع ترويجي، مثل المهرجان السنوي للأفلام الشرقية بمدينتي جنيف ولوزان، والذي تكون عادة معظم الأفلام المعروضة فيه من الأفلام العربية وتكون معظم الشخصيات المدعوة من المخرجين والفنانين والمنتجين من البلدان العربية، وينظمه أساساً مركز «جروتلي» السويسري، المعني بإبراز التنوع الثقافي والفني، إضافة إلى المهرجان السنوي للفنون الشعبية العربية والأفريقية، والذي تنظمه جمعية سويسرية غير حكومية تحمل الاسم نفسه، ويجتذب، إلى جانب العرب، آلاف السويسريين وغير العرب حيث يقدم صورة إيجابية عن تلك الفنون في البلدان العربية.
هكذا تبدو صورة الثقافة والفنون العربية في المهجر، وكما تتضح في الحالة السويسرية، مليئة بالزخم والمبادرات البناءة والإيجابية، ويبقى الأمر في حاجة إلى تنسيق الجهود في ما بين الجاليات العربية داخل بلدان المهجر من جهة، وبين هذه الجاليات ومؤسساتها الثقافية والفنية وبين المؤسسات القائمة على أمور الثقافة والفنون داخل الوطن العربي ودوله من جهة أخرى، بغرض الوصول إلى الصيغة المثلى للترويج للثقافة والفنون العربية بين عرب المهجر وبين شعوب العالم الأخرى من ناحية ولتعزيز العطاء الثقافي والفني العربي في السياق العام لمسيرة الحضارة الإنسانية من ناحية أخرى.