لا يختلف اثنان على أن هناك غموضاً نسبياً يلف المستقبل المنظور لمصر، لا سيما خلال هذا العام، الذي تكتمل فيه المرحلة الانتقالية، وقد تستمر بوسائل وأدوات أخرى غير مباشرة. ففي العام الماضي أنجز المصريون الموجة الأولى من ثورتهم السلمية، وفي هذا العام يحتاجون إلى إنجاز الموجة الثانية، ربما بالاحتجاج المباشر كما جرى طيلة العام المنصرم، وربما بطرق أخرى منها الدخول في مفاوضات عميقة بين الأطراف كافة حول الدستور وتشكيل الحكومة ووضع المؤسسة العسكرية ومدنية الحكم وسبل التغلب على المشكلات الاقتصادية والاجتماعية المعقدة التي خلفتها سياسات مبارك، أو من خلال بناء المؤسسات الاجتماعية الوسيطة وجماعات الضغط وتقوية الحياة الحزبية. ستظل جدلية «البرلمان» و «الميدان» قائمة، بين من يرى أن الأول بعد اكتماله يغني عن الثاني ومن يرى أن الثاني هو صاحب الشرعية وأن مجلس الشعب (البرلمان) بتركيبته الحالية ليس ممثلاً عن القوى الثورية وأنه أقرب إلى «الثورة المضادة»، وبين من يعتقد أن المسارين متعانقان، إذ إن الثورة يجب ألا يكون لها طريق واحد للتعبير عن ذاتها وهو التظاهر الدائم في الشوارع والميادين، وأنه آن الأوان كي تتجسد في مؤسسات، كما أن الميدان يمكن أن يكون نصيراً وظهيراً للبرلمان الذي يتخذ من الإجراءات ويسن من القوانين ما يكمل هدم النظام القديم ويبني على أنقاضه نظاماً سياسياً جديداً. وهذه العملية ستظل محكومة برؤية تؤمن بأن للفرد صوتين، صوتاً انتخابياً، وآخر احتجاجياً، وأن توافر أحدهما لا يغني عن الآخر، لأن اختيار عضو البرلمان لا يعني منحه صكاً على بياض أو تفويضاً أبدياً من الشعب. كما أن الديموقراطية التمثيلية في حاجة ماسة إلى «الديموقراطية التشاركية» حتى يمكن صوت الناس أن يكون حاضراً طيلة الوقت، لا سيما عقب ثورة شعبية وفي ظل شعور الجميع بالتزام مضاعف حيال إخراج البلاد من عنق الزجاجة ودفعها إلى الأمام لبناء الوطن الحر المكتفي العادل المستقل الذي يحلم به المصريون، وقاموا قيامتهم الكاسحة من أجله. وهناك عامل سيؤثر في المستقبل المنظور لمصر يتمثل في طبيعة التحالفات والصفقات والتفاهمات السياسية، وهذا أمر مألوف ووارد في عالم السياسة، لكن العبرة بصيغة ومضمون ما ينجم عن تحاور أو تفاوض أو تدبير المتحالفين والمتفاهمين، وما إذا كان متماشياً مع مطالب الثورة ومبادئها، باعتبارها الوسيلة المثلى أمامنا حالياً لبناء الدولة، أم يأتي على غير ريحها. وظني أن هذه التفاهمات ستتعدى توزيع لجان البرلمان أو بعض الحقائب الوزارية لتصل إلى العمود الفقري للنظام السياسي حيث ستشمل وضع المؤسسة العسكرية في الدستور الجديد، وشكل نظام الحكم، وتسمية الشخص الذي سيتم تسويقه رئيساً للجمهورية، ومدنية الحكم. ولعل هذا تحدده أو ستحدده القوة المنظمة الأبرز في الحياة السياسية وهي المجلس العسكري وجماعة الإخوان. والمضي قدماً في هذا الدرب يتوقف بالطبع على انفراد هذين اللاعبين بالساحة السياسة تماماً. لكن ظهور من يشاركهما أو يضغط عليهما أو يضعهما في حرج أمام الشعب قد يؤثر في كثير من هذه التدابير. وهذا من دون شك دور القوى الثورية، التي لا يزال أغلبها عصياً على الاستيعاب أو الاحتواء في تلك الترتيبات، ولم يتراخ عزمها في إمكانية تعبئة الشعب من جديد ليحافظ على ثورته من السرقة أو التبديد. يبقى عنصر حاكم وغاية في الأهمية يتعلق بالإنجاز، فالشعب لم يطلق ثورة بغية إشباع رغبة نفسية، وإن كانت كراهيته مبارك وأسرته وأركان سلطته قد بلغت حداً عميقاً، لكنه نزل إلى الشوارع من أجل الحرية والكرامة وكذلك تلبية الاحتياجات المادية من غذاء وإيواء وكساء ودواء، وعلى هذا ستتوقف شرعية من يحكم في الفترة المقبلة، فإن وفّى بما وعد، وحقق ما تعهد به، فإن الشعب سيلتف حوله، وإن أخلف سيعاقبه عقاباً أليماً. نقلا عن صحيفة الحياة