قلت إن هناك نذر مواجهة آتية بين المجلس العسكرى والقوى السياسية، وإن هناك فرصة لتفاديها إن اختار المجلس منهج القيادة بدلا من محاولات السيطرة. والجانب الآخر لهذه المواجهة هو تزايد الاستقطاب بين القوى الإسلامية والقوى الديمقراطية، وهى حالة بينة لا تحتاج تفصيلا. السؤال هو ماذا لو لم يمارس المجلس العسكرى دوره فى القيادة؟ هل تستطيع القوى السياسية وحدها فك حالة الاستقطاب بينها أم ستظل أسيرة عدم الثقة المتبادل حتى يرتطم بعضها ببعض؟ أزعم هنا أنه من الممكن للقوى السياسية وحدها فك هذا الاستقطاب بينها، إن تحلت ولو بقدر ضئيل من الرؤية والبصيرة، وأدركت استحالة إقصاء أى طرف من الساحة السياسية، وبالتالى أفضلية التوصل إلى أرضية مشتركة تقف عليها مع الآخرين لمواجهة التحديات الكبرى الآتية. كيف يمكن تحقيق ذلك؟ من خلال التوصل إلى كلمة سواء بين الجميع، لتفاهمات مشتركة، حول أربع قضايا. الأولى: هى ملامح الدستور وصياغته: هل يكون دستورا رئاسيا أم برلمانيا؟ كيف تسهم الفئات والقوى المختلفة فى عملية صياغته؟ ما قواعد تعديله فى المستقبل؟ وما الضمانات لحماية قواعده من العبث؟ الثانية: هى قواعد العمل السياسى الجديد، بما يشمل رؤية للعمل الحزبى والقوانين المنظمة له، وكيفية تنظيم الصحافة والإعلام، وقواعد عمل المجتمع المدنى والجمعيات الأهلية، وكيفية حماية الحريات العامة مثل حق التظاهر والإضراب والتعبير عن الرأى. وكذلك قواعد تنظيم الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة وتوقيتاتها. القضية الثالثة: هى ضمانات حقوق الإنسان الفردية والجمعية، ابتداء من الحريات الشخصية حتى حرية العبادة، وكيفية تمكين الأفراد من حماية هذه الحقوق من خلال القضاء إذا ما تعدت عليها الدولة، سواء بشكل مباشر من خلال أجهزتها أو بشكل غير مباشر من خلال تغيير القوانين والدستور نفسه. القضية الرابعة: المبادئ العامة لإصلاح الحياة الاقتصادية ومؤسسات الدولة ومحاربة الفساد، بهدف تحقيق تقدم ملموس فى مجال العدالة الاجتماعية، وبدء الإصلاح الإدارى لأجهزة الدولة المترهلة، ووضع قواعد لمحاربة الفساد بأنواعه. إن اتفقت القوى السياسية الرئيسية، الإسلامية منها والديمقراطية، على ملامح ومبادئ عامة فى هذه القضايا الأربع، لتجاوزت الاستقطاب الحالى، وانتقلت إلى حال من التنافس الصحى الذى نراه بين الأحزاب السياسية فى النظم المستقرة. السؤال هو كيف يمكن أن تتفق القوى السياسية التى تحارب بعضها بعضا على هذه الأرضية المشتركة؟ ومن الذى يقوم بذلك إن كانت هذه القوى لا تثق ببعضها؟ فى رأيى، إن القوى الإسلامية -ممثلة انتخابيا فى حزب الحرية والعدالة وحزب النور- هى التى تتحمل المسؤولية الأكبر فى السعى لبناء هذه الأرضية المشتركة، وهى الأكثر قدرة على أخذ المبادرة فى هذا الشأن، وذلك بحكم نجاحهما الانتخابى الكبير الذى يضعهما فى موقع الأغلبية بالبرلمان، المؤسسة الوحيدة المنتخبة فى مصر. هذا الموقع يفرض على صاحبه اختيار طريقة من اثنتين: إما تمثيل الأغلبية فقط، عن طريق الاستئثار والاستقطاب وخوض المواجهات مع بقية القوى داخل البرلمان وفى الشارع، وإما تمثيل الشعب ككل، عن طريق بناء توافقات عريضة حول أرضية مشتركة تمكن الجميع من العمل نحو المستقبل بمصادمات ومشاحنات أقل. الأغلبية الجديدة هى التى تتحمل المسؤولية الأكبر فى حسم هذا الاختيار.والشرط المبدئى لبناء هذه الأرضية المشتركة وطمأنة الطرف الآخر أن تحاول كل قوة رؤية نفسها من موقع القوة الأخرى. فكل طرف يعتقد أنه برىء النفس والنية، وأن القوة الأخرى هى التى تهدده. إن تمكنت كل قوة من النظر لنفسها من الخارج، وكأنها لا تعرف نفسها، وتخيلت المخاوف التى يمكن أن تنتاب القوى الأخرى حين تنظر إليها، لفهمت ما يحتاج إليه الطرف الآخر من ضمانات.