اذا كان لديك حقيبة لها يدان يحملها شخصان كل منهم ممسكا بيد، فإذا أراد كل طرف فيهم شد الحقيبة بكل قوة فإنك أما ثلاثة إحتمالات، الأول إستطاعة شخص فيهم السيطرة والغلبة وأخذ الحقيبة بالقوة، أو تساوي قوتهم وبالتالي سوف تتمزق الحقيبة الي نصفين ويصبح في يد كل منهم جزء، أو ان تستمر حالة الشد والجذب والصراع علي الحقيبة. ما أود قوله، هو مثال علي ما يمكن ان ينتج عن الاستقطاب الحاد، بين القوي السياسية الموجودة علي الساحة. يسود الإستقطاب الحاد بين الليبراليين والإسلاميين منذ الجدل حول الإستفتاء علي التعديلات الدستورية، إلي معركة «الدستور أم الإنتخابات أولاً» وبلغ الإستقطاب ذروته يوم «جمعة الحفاظ علي الهوية الإسلامية»، ويسود الإستقطاب ليس فقط مع إنفتاح المجال العام بعد الثورة، ولكن كان موجودا في ظل النظام الساقط الذي أدار آلته الإعلامية للتعتيم عليه. الإستقطاب هو مسألة طبيعية في الحياة السياسية وبخاصة في فترة الإنتخابات، بيد أن ممارسة كل طرف لعملية الإستقطاب وتبادل الإتهامات بدون سعي جاد للتعرف بالآخر، يؤدي إلي تشدد وصخباً كبيراً وإنتشار صور نمطية سيئة لدي كل طرف عن الآخر بدلاً من "التعاون فى حمل تركة ثقيلة بائسة خلفها النظام السابق" كما يقول د. وحيد عبد المجيد. وبذلك يصبح هذا الإستقطاب جعجعة بلا طحين Much Ado About Nothing كما يقول شكسبير. يؤثر الإستقطاب بشدة علي نتيجة الإنتخابات، وما لم يكن هناك سعياً لدي كل طرف لتعريف نفسه بالطريقة التي يرتضيها، وبالتوازي مع سعيه لمعرفة الآخر والتعاون معه، ستصبح محاولاتهم للوصول لأهداف «برلمان الثورة» بمثابة حرثاً في بحر. وسيتجدد الإستقطاب بعد الإنتخابات حول مسألة المبادئ الأساسية للدستور وضوابط اختيار الجمعية التأسيسية. الإستقطاب سيجعلنا ندور في حلقة مفرغة لا نهاية لها، وسيصبح أمامنا أميال طويلة للوصول لحياة ديمقراطية حقيقية بعد أن أعتقدنا بعد الثورة أن المسافة التي تفصلنا عن الديمقراطية هي «فركة كعب». الحل : يكمن الحل في تفعيل مفاهيم سياسية هامة هي، «إجماع الفرقاء» «العقلانية التواصلية» «الديمقراطية التداولية». التوافق العام أو إجماع الفرقاء Overlapping consensus مفهوم صاغه "جون رولز"، يعبر عن كيف يمكن لمؤيدي مذاهب دينية/ أيديولوجية/ أخلاقية مختلفة أن يصلوا إلي توافق عام حول آلية أو مؤسسة أو معايير سياسية معينة تحكم حياتهم المشتركة وتحقق العدالة بينهم من خلال مشاركتهم جميعا في صياغتها والتوافق حولها. ويرتبط هذا التوافق بتفعيل مفهومي "هابرماس" «العقلانية التواصلية» و«الديمقراطية التداولية». وبعيدا عن التعريفات والجدل الفلسفي، يتسم العقل التواصلي بأنه لا يدعي إحتكار الحقيقة المطلقة ولا يتمركز حول الذات بل يقوم علي الفهم المتبادل بين الأفراد والذوات المتواصلة، ويصل إلي الحقيقة من خلال إجراءات قائمة علي الحجة والبرهان والصدق والدقة دون إكراه أو عنف. وهو وسيلة للبحث عما هو عقلاني ويعبر عن الإجماع والتفاهم والحوار من أجل بلورة توافق مجتمعي (عكس الإستقطاب الحاد). فليس المهم ما أدعيه أنا أو أنت من حقائق بل ما نستطيع الوصول إليه معا ونتفق عليه بشأن تلك الحقائق. فالوصول إلي الحقيقة عند هابرماس مشروط بالحوار والنقاش والتواصل والتوافق السليم لتحظي الحقيقة بقبول الجميع. وهذا النقاش العام العقلاني التواصلي يتطلب مجال عام حر ومستقل عن أي قهر أو إستعمار من سلطة للدولة أو المال أو الدين أو أي مصدر قوة غير قوة الحجة والبرهان. فالمجال العام هو مفتاح ممارسة الديمقراطية لأنه ساحة لخلق الرأي العام والمصالح العامة والتوافق المجتمعي. والديمقراطية التداولية لا تقوم فقط علي الصيغة التمثيلية القائمة علي التصويت والإنتخاب، بل تقوم علي التفكير العام والتشاور وتداول الآراء والحجج. فالمعيار النهائي لشرعية المؤسسات والقرارات والمصالح، في ظل الديمقراطية التداولية، هو التوافق والتراضي الحر الذي ينظم الصراع السياسي في أي مجتمع ديمقراطي. التوافق يقوم علي خطاب عقلاني وحجج وبراهين تعبر عن المساواة والإستقلالية بين كل الأطراف المتنافسة. وعليه، تقوم الديمقراطية التداولية علي منظور توافقي للشرعية، حيث الشرعية الوحيدة هي شرعية الجدل والنقاش العام حول إدعاءات صلاحية اتخاذ القرارات وذلك لنسبية المعايير فهي غير مطلقة من حيث الزمان والمكان والظروف ولا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة فالصراع هنا ليس حول الحقائق المطلقة ولكن حول ما هو نسبي وما هو متغير، كما علمتنا د. أميمة عبود أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة. ويترتب علي الديمقراطية التشاورية، خلق التيار العام mainstream حول القضايا العامة الجوهرية، والتدريب علي آليات الحوار المجتمعي، وخلق أرضية مشتركة للحوار، وخلق هوية مدنية قوامها القانون وليس الثقافة أو الجنس، والوصول إلي معايير جماعية قائمة علي قناعات مشتركة بين جميع الفرقاء دون تحيز لأي تصور عند إتخاذ القرار. وبناء مؤسسات تشاورية تسمح بالنقاش العمومي علي قدم المساواة. والإقرار بشرعية الجدل والنقاش الدائم حول إدعاءات الصلاحية المختلفة وضرورة التوافق والتراضي حول إتخاذ القرارات.