عالم الاجتماع المصري السيد يسين (1919 – 2017) كان من الباحثين القلائل الذين يتابعون في شكل منتظم التحولات الأساسية في بنية المجتمع الدولي والقواعد والنظم والنماذج التي حكمته على مدى الحقب الخمس الماضية. وهو كان يحاول بهذا المنهج التحليلي، ومن خلال متابعة المناظرات الكبرى التي دارت بين مدارس الفكر المختلفة، استشراف خريطة المجتمع الدولي الجديد ومعالمه والقضايا الكبرى التي ستشغله. غير أن متابعة يسين هذه التحولات، بمنهج التحليل الثقافي، جعلته يركز على نظم الأفكار في نشوئها وتحولها وتغيّرها. وهو اتخذ ذلك المنهج مدخلاً أساسياً لفهم ما حدث للرأسمالية والماركسية، وعلى هذا فإنه كان يعتمد التحليل الثقافي باعتباره المنهجية الملائمة للدراسة وتحليل وتفسير التغيرات الكبرى التي حدثت في العالم. وتأكدت عنده قيمة هذا المنهج بعد أن تبيَّن عجز المناهج السياسية والاقتصادية السائدة، ليس فقط عن التنبؤ بمصير النظام القديم، وإنما أيضاً عن تفسير الظواهر المصاحبة لانهياره. ووفق رؤية يسين فإن منهج التحليل الثقافي لم يتبلور إلا في العقود الأخيرة، نتيجة إسهامات مجموعة من كبار المنظرين في العلم الاجتماعي الغربي، أبرزهم ميشيل فوكو الفرنسي، وهابرماس الألماني، وبيتر برغر الأميركي، وماري دوغلاس الإنكليزية الأصل. ويمكن أن يضاف إليهم أيضاً جاك دريدا الفرنسي. غير أن أهمية التحليل الثقافي لم تبرز فقط نتيجة هذه الإبداعات النظرية والمنهجية، ولكنها ظهرت لأن كثيراً من المشكلات التي تجابه العالم الآن، عجزت المناهج السياسية والاقتصادية السائدة عن سبر أغوارها، وتفسير تجلياتها المتنوعة. ومن أبرز تلك المشكلات ما يتعلق بحركات الإحياء الديني والجماعات الدينية المتطرفة وتأثيرها المباشر على تغيير خريطة الدول، والاهتمام العالمي بحقوق الإنسان في إطار ثقافات مختلفة، وكذلك احتكار وسائل الإعلام العالمية، إلى غير ذلك من مشكلات تحتاج إلى منهج تحليل ثقافي شامل. ويدلل على أهمية التحليل الثقافي، ما يتردد في الوقت الراهن من دعاوى تتعلق بانهيار الحضارة الغربية، وتقلص هيمنتها الثقافية على العالم، وبروز حضارات أخرى كالحضارة اليابانية والصينية مرافقة لنهضة اقتصادية كبرى حققتها اليابان والصين. وعما حدث في العالم، يعتبر يسين أن الأهم هو سقوط الأنظمة الشمولية التي كانت تقوم على احتكار الواحد للسلطة، وصعود موجه الليبرالية والتعددية السياسية من خلال حركة الجماهير السلمية الإيجابية التي خرجت لكي تقضي على الاغتراب السياسي والاقتصادي والثقافي الذي عانته طويلاً. ومعنى ذلك سقوط الأنساق السياسية المغلقة التي كانت تحتكر الحقيقة السياسية، وظهور أنساق سياسة مفتوحة تتعدد فيها الأصوات، وبروز المعارضة وتنافس الأحزاب والجماعات السياسية. ويتوقع يسين في ضوء المؤشرات والتغيرات الثقافية والأيديولوجية والسياسية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، ظهور نمط سياسي واقتصادي ثقافي توفيقي جديد، سيحاول أن يؤلف تأليفاً خلاقاً بين متغيرات تبدو في الظاهر متناقضة، وستمر هذه المحاولة في مرحلة تتسم بالصراع الحاد العنيف، والذي قد يأخذ أحياناً شكل المجابهة العسكرية المحدودة في هوامش النظام وليس في مركزه. يتسم النموذج التوفيقي العالمي الجديد بسمات عدة، هذا لو استطاعت قوى التقدم أن تنتصر على قوى الرجعية. 1- التسامح الثقافي المبني على مبدأ النسبية الثقافية في مواجهة العنصرية والمركزية الأوروبية والغربية. 2- النسبية الفكرية بعد أن تنتصر على الإطلاقية الأيديولوجية. 3- إطلاق الطاقات الخلاقة للإنسان في سباقات ديموقراطية على المستويات كافة بعد الانتصار على نظريات التشريط السيكولوجي، والتي تقوم على أساس محاولة صب الإنسان في قوالب جامدة باستخدام العلم والتكنولوجيا. 4- العودة إلى إحياء المجتمعات المحلية، وتقليص مركزية الدولة. 5- إحياء المجتمع المدني في مواجهة الدولة التي غزت المجال العام ولم تترك إلا مساحة ضئيلة للمجال الخاص. 6- التوازن بين القيم المادية والقيم الروحية والإنسانية. وينتقل يسين إلى تطبيق منهج التحليل الثقافي على المجتمع العربي، فقد تبنى هذا المنهج في قراءة التراث العربي الإسلامي مفكران بارزان هما محمد أركون الباحث الجزائري والأستاذ في السوربون، ومحمد عابد الجابري المفكر المغربي المعروف صاحب كتاب «نقد العقل العربي». ومن المعروف أن هناك قراءات حديثة عدة للتراث، أهمها محاولة حسين مروه، «النزاعات المادية في الإسلام»، والطيب تزيني «من التراث إلى الثورة، «حول نظرية مقترحة في قضية التراث العربي»، وحسن حنفي «من العقيده إلى الثورة». وكان يسين يرى أنه ليس من المبالغة القول إن التشخيص الأساسي لأزمة المجتمع العربي عند أركون تتمثل في الهيمنة الشديدة للخطاب الإسلامي بما يتضمنه من نصوص مقدسة في القرآن وأحاديث للرسول الكريم على مجمل حركة المجتمع العربي. وفي تقديره أنه لا بد من تفكيك هذه النصوص (والتفكيك مصطلح منهجي حديث ابتدعه الفيلسوف الفرنسي دريدا) والكشف عن طريقة عملها، وتخليصها من الأساطير التي تحيط بها (وأركون يستخدم مصطلح الأسطورة بالمعنى الأنثروبولوجي للكلمة، ولا يقصد الحط من قداسة النص). وكان يسين يشدد على أن العقل العربي في نظر بعض المفكرين العرب يحتاج إلى تحديثٍ، لأنه عقل ساكن هيمن الجمود على جوانبه، كما نرى في كتابات المفكر اللبناني حسن صعب، وهو عقل يحتاج إلى نقد جذري يكشف عن الأنظمة المعرفية الأساسية التي يقوم عليها كما يرى في كتابات المفكر المغربي محمد عابد الجابري. والفكرة الرئيسة التي انطلق منها يسين هي أن المجتمع العربي وصل إلى نقطة، ثبت منها أن النسق الثقافي عاجز عن القيام بهذه الوظائف، ومن هنا تأكيده أننا نواجه في الوقت الراهن أزمة ثقافية عربية. رحم الله الأستاذ السيد يسين بقدر ما أعطى للفكر والثقافة. نقلا عن صحيفة الحياة