فيها «الذوق» طبع أهلها وروح مبانيها.. ومقام «صالح» مدفون على بابها "أم أحمد" تكنس أمام «الحاكم»: ولاد منتهى والعلاف فتوات زمان الجدعان لكن «خنوقة» بلطجى قتل ابنى وحسرنى عليه يحكى أن رجلاً صالحاً عاش في عصر المماليك وكان مشهوداً له بالحكمة والعدل والمصالحة بين المتخاصمين إلا أنه ذات يوم عجز عما اعتاد عليه وغلبته المنازعات وضاق بظلم وقع، وفشل في رفعه عن مظلوم فضاق صدره وحزن قلبه فحزم أمتعته وهَّم بمغادرة البلاد إلا أن الحسرة على فراقها أسقطه شهيدا على بابها فتجمع أهل «المحروسة» وقرروا دفنه في أحضان معشوقته وأقاموا له مقاماً تحت بابها وبهذا بقى في «الجمالية» والذوق «ماخرجش من مصر». ليست مجرد حكاية أو أسطورة نسجها أهل الحى العريق من خيالهم، فضريح العارف بامر الله حسن الذوق يقبع هناك في مدخل الحى العريق من ناحية باب النصر. وليس من باب المصادفة أن تستقبلك «الجمالية» بقبة خضراء لرجل صالح من أهلها. وحكاية سيدى حسن الذوق تمنح أخباراً متلاحقة من طرف حى هو في الحقيقة أصل وروح مصر. حارتها وشوارعها وأزقتها وجدران مساجدها وبيوتها وأسبلتها ومقاهيها وكل نسمة هواء تتنفسها بين ناسها مخلوطة ب«ذوق» من نوع ساحر تلمحه في كل شىء وفى عيون كل أهل الحى بأحزانهم وأفراحهم بشكواهم ورضاهم. وربما لا تجد تناقضاً مستفزاً لمنطقك وأنت ترى دموع «أم أحمد» التي تروح وتجيء تكنس الشارع «النظيف» أمام جامع الحاكم بأمر الله، ثم تجلس على طرف إحدى الحدائق أمام مدخله تبكى وتمسح دموعها بطرف طرحتها السوداء، ثم إذا حركت عيناك في جانب آخر من الحديقة وجدت مجموعات البنات والشباب وقد اعتلت وجوههم ضحكات منعشة في موجة حارة أعلن الصيف فيها عن قدومه بكامل عافيته. "بيقولوا الفتوات كانوا طيبين وبياخدوا حق المظلوم من الظالم.. زى ولاد منتهى وبدوى والعلاف لكن اللى قتل ابنى بلطجى مش فتوة زى بتوع زمان ومنهم سيدى الذوق زى أمى ما حكتلى". "أم أحمد" تصلى كل فرض تسمع أذانه في «الحاكم» وتغسل وجهها من ماء النافورة الذي يتدفق في صحنه. ولا تهتم بما يحكيه الناس عمن يسمونهم ب«البهرة» الذين يصلون بطريقتهم الخاصة. كل ما يشغلها تدبير أجرة الحجرة التي تقطنها ب«العطوف» ثم تتذكر ابنها الذي كان خيرة من خرج من رحمها، لكن الله انتقم من «خنوقة» البلطجى فمات في السجن؛ لكن موته لم يعوضها عن أحمد الذي تركها، لهم الدنيا والأم المرض، حيث لا تستطيع أن تُفصح عنها خاصة في أوقات العمل الرسمية، فهى في عرض ال500 جنيه مرتبها وإذا غابت يوم يتخصم يومين. كل ده مش مهم كل ما افتكر ابنى أعيط وكل ما أمد أيدى وأستلف علشان العلاج أبكى عليه وعلى حالي. لأنها روح مصر ففيها الحزن موازياً وملازماً للفرحة ربما السر في الرضا بالمقسوم الذي ينفرد به أهل مصر ولذا عندما حدثنى "وليد" تاجر الشيشة وأدوات المقاهى عن وقف الحال كنت ألمح في الوقت نفسه فتاة عشرينية تأتى من درب "المغاربة" وقد وضعت برقعاً مزداناً بالترتر الملون على وجهها وتلتقط «صورة سيلفى لوجهها بطلته الآتية من زمن» مصراوى بجد مضى. ولم يستغرق وليد كثيراً في الحديث عن البضاعة المتراكمة في المحل دون زبائن رغم تفننه في ابتكار أشكال جديدة من الشيشة لتبدو أشبه بقطعة فنية راقية وليصل ثمنها إلى 250 جنيهاً على الأكثر لكن وليد لم يستسلم لحال السوق «اللى ما يسرش» فاشترى ماكينة غزل بنات وجيلاتى يبيع منها لزوار المناطق الأثرية عشاق مجموعة قلاوون البديعة وكل زوار شارع النحاسيين. وعلى طول شارع المعز لدين الله الفاطمى أو أمير الجيوش يتكرر المشهد أمام المحال المتنوعة تاجر ينتظر الفرج ومتفرجون من كل الأعمار يحملون امتناناً ملحوظاً للوقت الذي يقضونه في الجمالية البهية بأسوارها وبوابتها (النصر والفتوح) ومدارسها الأيوبية والمملوكية وخان الخليلى التحفة الفنية العالمية التي لم ينقطع عنها عشاقها من السائحين وإن قلت أعدادهم، الصاغة حتى إن عملت أغلب محلاتها في الطلاء بماء الذهب وبيع وشراء الدهب الكسر بعد أن اشتعلت أسعاره وندرت زبائنه ورغم أن الحى يضم حوالى 18 شياخة منها برقوق والبندقدار والدراسة والخرنفش إلا أن الناس تطلق على المكان أما الأزهر أو الحسين أشهر وأهم المساجد والمعالم هنا. ورغم أن همّ عم "سالم" مثل هم عم "وليد" وأغلب تجار المحلات إلا أن "سالم" بائع النحاس يرى الزحام على المحلات «زيطة ع الفاضى» لا تسمن ولا تغنى من جوع وعندما تحدثه عن حال السوق يقول: الأهم الزاوية المقفولة من سنين الآثار والأوقاف قفلوها فزاوية أبوالخير الكليباتى تم ترميمها ثم خاف المسئولون عليها من الإهمال ورأوا أن الحل في غلقها أمام الناس. وتساءل وهو ده الحل. طيب ما يحافظوا عليها؟ فيلسوف الجمالية ممسكاً بمتر خشبى قديم مدرج يقيس به أقمشة مزركشة زاهية كضحكته. المشهد يكاد يكون قد انقرض من ذاكرة المصريين إلا أنه ما زال هنا كأنه تاريخ لتفاصيل حياة خاصة جداً لم يعشها إلا ذو حظ عظيم. عم محمد بسيونى الذي يؤكد أن جذوره هنا في الجمالية وتحديداً في «بير جوان». أصلها كان فيها بير وسموها كده على اسم الأمير جوان. أنا جدودى كلهم من المكان ده، ما هو ده أصل مصر، وكسوة الكعبة كانت بتخرج من هنا، كانت تخرج من بيت السادة البكرية في الخرنفش على "الجِمال" وتروح العباسية وتخرج للحجاز من العقبة. كان خير ولسه الخير موجود لكن الناس اللى وحشة. بيقولوا الحال واقف، لكن بصراحة الحمد لله الدنيا بقت أحسن، أنا صحيح بابيع قماش ومالوش زبون لكن شغالين على الستات «التخينة» والناس الكبار اللى مالهومش في الجاهز. يصمت عم "محمد" لحظات كأنه يذهب بخياله إلى زمن يفتقده قائلا: زمان كنا نجيب القماش من المحلة وقلما وكرداسة وقليوب حاليا بنشترى من جنبنا في الأزهر مش مستاهلة سفر، أصل القماش زى الطرابيش راحت عليه. لكن أنا متمسك بمكانى ومهنتى، وهموت هنا في حضن الجمالية والله خالى بيه جامد قوى وعرض عليّ يبادلنى شقتى بشقة على النيل في الزمالك ورفضت. أنا لو خرجت أموت. ده أنا صليت في الحسين وأنا عيل صغير كان عندى حوالى 8 سنين والملك فاروق الله يرحمه ادانى 10 جنيه محتفظ بها. ده تاريخ. كانت أيامه حلوة والناس جدعان والذوق مدفون على بابنا ماخرجش من الجمالية والريس السيسى ابن حتتنا وعارفينه وعارفين أهله، ناس صيلة بجد، هو ابن عم سعيد السيسى عيلة كريمة ووالدته الله يرحمها كانت ست فاضلة. يستطرد الرجل في الحكى كأنه الراوى على مقهى الحسين الشهير. وعم نجيب كان بيقعد معانا على القهوة والغيطانى الله يرحمه حتى سمينا «الضبابية» على اسمه. يعود عم "محمد" لأقمشته ويشير إلى أقمشة مزخرفة رائعة ويقول مداعباً "ما تخدوا مفرش للسفرة بيعمل جو في رمضان. والمتر عندنا مبروك ويزيد"، وأشار إلى متر القياس في يده "اشتريه من بيت القاضى ويتختم كل سنة من المصلحة. والله الدنيا بخير والقماش حلو ورخيص متر الباتستا ب 6 جنيهات يا بلاش". درب قرمس من البهجة في بيت القاضى والسحيمى وعيون البنات الفرحانة وهى تتجول بالشارع العريق راكبة «الطفطف» إلى أحزان عم "جمعة" في درب قرمس وذلك بعد أن لملم بضاعته التي كان يعرضها في الشارع الرئيسى عسى أن يعجب بها من أتوا للفرجة فقط. قال: "ده رزقنا ورزق عيالى لما ادخله في المحل متر في متر مين هيشوفه.. لازم أفرد البضاعة برة والبلدية عينها علينا. هنشتغل إزاى. أنا زبونى مش الأجنبى الفلاحين وولاد البلد لأنى بابيع شوية جلاليب وطرح شنط للبنات غوايش. أى حاجة نعيش منها". دوام الحال من المحال.. من الشكوى والضيق إلى المرح والضحك على مقهى الضببية أو جمال الغيطانى وقد علّق المقهى عرائس تمثل شخصيات ولاد البلد. هنا كحال مقاهى الجمالية الكبيرة والصغيرة في الحارات والشوارع. كلها حكايات الجالسين يتجاذبون أطراف الحديث، من جميع الفئات والأعمار والثقافات والأجناس أيضاً. تسير لتقرأ أسماء تحسبها كتب التاريخ والجغرافيا وكل المعرفة. جامع الكشكية، الدرب الصفر، البرقوقية، ربع المعز، قصر بشتاك، بين القصرين، كتخدا، شركات ومحال دونت أعلاها تواريخ افتتاحها لتكتشف فجأة أنك عدت قروناً من الزمان مثل شركة صبح زايد للنحاس التي أنشئت عام 1888، قبور عظماء أصبحت آثاراً ينبهر بها زوار المكان مثل مسجد وخنقاه الظاهر برقوق وقد كتب عليها «جامع وضريح وقبة وقد دفن بها والد الظاهر وإحدى زوجاته»، مركز بيع الحرف التقليدية بالفسطاط وهذا المكان تحدياً يشغل بال رمضان أحد العاملين في محل لبيع المشغولات المصرية الشعبية. قال: شغلنا كله بخسارة. واللى هناك ده شغل وزارة الثقافة الناس والطلبة بييجوا يتفرجوا عليه وأردف الشاب قائلا: والله نفسى أشوف شغل في مكان تانى لكن أعمل ايه.. روحى فيها. زقاق المدق استطاع نجيب محفوظ أن يمنح الجمالية بعداً فيه من الخيال ما شابه الواقع أو غلبه فبات من الصعب التمييز بينهم ربما أراد أن يبادل المكان التأثير والتميز كما فعل بأديب نوبل. يتحدث الناس في الجمالية عن محفوظ ليس باعتباره «ابن حتتهم الشهير» ولكن كانه علامة من علامات المكان والزمان. لذا عندما تصعد سلالم زقاق المدق تبحث بعينك عن شباك حميدة التي أطلت من خلاله على الدنيا حتى وقعت في فخها. لتجده كما صوره كاتب الرواية بنفس عنفوان بطلة حكايته وشغفها بالحياة على باب وكالة العطارة في أول الزقاق يجلس عم محمد حسن حفيد «عباس الحلو» أحد أبطال زقاق نجيب محفوظ وبينما كان الرجل يحتسى فنجان قهوته كعادته في أول كل يوم اعترض بشدة على تفصيل كثيرة كتبها محفوظ، وكأنه ينتظر كل من يأتى ليؤكد له أن جده لأمه هو صاحب الزقاق قائلاً: "جدى كان صاحب فرن وماكانش حلاق وكل البيوت هنا آلت له بالوراثة" ثم أشار إلى المقهى الذي شهد تدفق إبداعات نجيب محفوظ وها هى صورته تعلو ترابيزته الخاصة، يتفاخر بها أصحاب المقهى الذي ورثوه عن صاحبها المعلم «كرشة» الذي أدى دوره المعلم رضا، فيما كان يلتقط الجالسون الصور التذكارية في المقهى قطع التفاصيل صوت محصل المياه الذي تحول المكان بسببه إلى ساحة معارضة فور إعلانه قيمة فاتورة المياه لمحل الفضة بالزقاق 300 جنيه وهنا تعالى صوت العامل: ليه يعنى؟! المحصل: 50 جنيه استهلاك والباقى ديون. العامل: طيب لما ييجى صاحب المحل هنقوله يتصف معاكم. المحصل: أنا مالى أنا عبدالمأمور. وهنا يتدخل المعلم حسن: يعنى الزقاق كله بيستهلك ايه علشان المبالغ دى. ثم عاد الرجل وكأنه يريد استعادة تفاصيل زمان هرباً من «فواتير هذا الزمان». ده بقى بيت عم "كمال" بتاع البسبوسة، الله يرحمه، اللى عمل دوره شفيق نور الدين وكان اسمه الحقيقى عم «شاروق» وبعد ما مات البيت مقفول، والله ستات الزقاق كلهم محترمين وده بيوت عائلات من زمان. وإحنا وأهالينا كلمنا عم "نجيب" الله يرحمه، وكان فيه ناس زعلانه، وهو رد وقال: يا جماعة دى رواية. وكان المعلم حسن حريصاً أن يفسر لنا سر تسمية الزقاق بهذا الاسم. كانت الحتة كلها عطارين بيدقوا البهارات والأعشاب والعطارة، وكنا نصحى على صوت «الدقدقة» وانتهت «الدقدقة» من سنين طويلة وحلت المطاحن محلها. لكن روائح العطارة مازالت تعطر المكان وتمنحه روحاً خاصة ساحرة يعشقها كل من تطأ قدماه الزقاق وحى الجمالية كله.