بما أن موضوع "الأطباء" موضوع ساعة في أكثر من دولة عربية، ولأن كثيرين يتحدثون عن الطب والأطباء دون اطلاع واستنادا إلى أوهام مطبقة، فأحب أن أقول الملحوظات المبعثرة التالية: 1- لقد ولى زمن كان فيه الطبيب هو "الحكيم" الذي تتطلع إليه الأعين وتشرئب نحوه الأعناق.. يحدث تغير تدريجي في مجتمعاتنا نحو التعامل مع الطبيب بمنطق "الكفاءة الأداتية" لا "الحكمة" أو "الوقوف على تخوم الغيب".. 2- صار الناس يعرفون ما معنى طبيب امتياز، وطبيب مقيم، وأخصائي.. وبالتالي فكونك "طبيبا" لم يعد يعني شيئا.. ويأتي البعض إلى الطوارئ وكل ما يشكو منه هو مغص عادي، ويريد طبيبا أخصائيا ليكشف عليه!.. حتى سائقو التكاسي يذكروننا دائما أن علينا أن نتخصص لأن حال الطبيب غير المختص يثير شفقتهم. 3- الطبيب بالفعل يعاني في حياته.. و وفق تجربتي الخاصة فلم أكن أقرأ أقل من خمس ساعات يوميا أيام الجامعة.. 4- بعد الجامعة، على الطبيب في بلادنا أن يختار بين أمريكا وامتحاناتها الصعبة المكلفة، أو ألمانيا ولغتها المعقدة، أو البقاء في بلده حيث النظم الصحية المنحطة التي تكفل له الموت كمدا إن أراد الحفاظ على طهارته، أو أن يستوعب تماما في المنظومة الفاسدة. 5- عمل الطبيب، حتى ولو كان أخصائيا، متعب بالفعل.. وقلة في الواقع هم الأطباء الذين يجلسون في عيادة فقط.. الطبيب المقيم يقضي على الأقل ثمانية ساعات متكلما بلسانه وكاتبا بيديه وماشيا على قدميه ومشغلا عقله ومنتبها لمصائب كامنة ومحاورا فئات من الناس تتراوح من السوقي الجاهل إلى المتعلم المتعالم، ومن الفقير الغاضب إلى الغني المتكبر.. ولا أظن أن مهنة أخرى تحتاج هذا.. وهذه الفترة قد تمتد إلى 36 ساعة في المناوبات، مع ما يتخللها من فترات وقوف طويلة بالنسبة لبعض التخصصات كالجراحة.. 6- لا يفهم الناس أن في الطب مدارس واجتهادات وأقوالا معتبرة ومتعارضة، ويفترضون أن الطب لأنه يتعامل مع الصحة والحياة فهو عملية رياضية، وإلا فهو تحزير.. هذا جهل مطبق.. 7- لا يفهم الناس أننا كأطباء معالجين، فعلا، لا نملك زمام أكثر من 50 بالمئة من التحكم في الحالة الطبية.. والباقي "على الله" فعلا، وهذا قول علمي لا غيبي.. وحتى الأطباء الملحدون قد يسمون الأمر بأسماء أخرى، لكن جوهر الحقيقة واحد.. 8- هل الطبيب مرتاح ماديا؟.. الطبيب المقيم في فلسطين والأردن لا يتجاوز راتبه غالبا ألف دولار.. وبحسب علمي ف"خط الفقر" في هذه الدول ليس بعيدا عن هذا الرقم.. ويمكن تعداد مجموعة تخصصات غير قليلة توفر مردودا أعلى بتعب أقل بما لا يقاس.. أما الطبيب الأخصائي فقد يتراوح من فقير فعليا إلى مليونير، ويعتمد هذا على عوامل كثيرة ومتضاربة.. منها تخصصه ومهارته وأمانته وفهلوته وقدرته على النصب والاحتيال وتشويه زملائه وإقناع الناس بالخطأ والتدليس عليهم ورضا النظام الصحي الفاسد عنه وتربيطاته مع الوزارات وشركات التأمين وحسن تعامله مع الناس والتوفيق الرباني وغيرها.. كل هذا يجعل مقولة "الطبيب الغني" مقولة مضحكة ومعممة وتتجاوز واقعا متشابكا مليئا بالإشكالات والابتلاءات ومتنوعا إلى أقصى درجة.