ذكرت فى مقال سابق* أن البعض يذهب إلى أن الفكر السياسى الشرقى قد عجز عن خلق نظرية ل "الدولة"، وكان ذلك فى تصورهم نتيجة خلط مجالات السياسة بالأخلاق والدين، ونحن نعتقد أن ذلك مرده إلى النظم الشرقية التقليدية مارست السياسة كفعل ولكن لم تكن السياسة فى ذاتها مصدر قيمة أو مجال مستقل له قانونه وخصائصه ورموزه ولغته، كما هو فى التصور الغربى الحديث الذى تظهر فيه الدولة، كما وصفها تيموثى ميتشيل، بوصفها شيئاً أو موقعاً أو فاعلاً يقوم بالانفصال عن الواقع لمحاولة تنظيمه، ان سيجموند باومان يذهب إلى أن الغرب قد تخلى عن عدد من القيم الإنسانية مثل الحرية فى سبيل الحصول على مستوى أفضل من الأمان الفردى ووضع الصفات الانسانية العفوية فى شكل أكثر تنظيماً وحالة مألوفة، ويتم ذلك من خلال تغليب عملية التحكم على الفعل الطبيعى التلقائى عن طريق التنظيم والتقسيم والتصنيف والقوانين وبيروقراطية نظم الحكم الهرمية. هذه الدولة التى يتحدث عنها باومان كانت التصورات الأولية التى نشأت عنها فى الفلسفات الغربية منذ جمهورية أفلاطون مروراً بتوماس مور وتوماسو كامبانيللا وسان سيمون وماركس وحتى آخر المحاولات الأيدولوجية لتنظيم المجتمع للوصول إلى اليوتوبيا الأرضية مشتركة جميعها فى صفه رئيسية وهى أنها كيان مستقل ومصدر قيمة بذاته، كيان يقوم بالانفصال عن المجتمع ليقوم بتنظيمة، ولذلك نجد فى أفلاطون فى جمهوريته يتصور الحكومة باعتبارها كيان مختلف ومنفصل عن المجتمع يحق لها الكذب لأنه فى صالح المجتمع حيث أنها تدرك من موقعها المرتفع ما هو الأصلح له وعلى هذا المجتمع أن يخضع لها بشكل كامل من أجل كفائة تنظيم الدولة. إن الدولة فى تصور أفلاطون يجب أن تمنع أنواع من الكتب وتراقب الفنانين وتحذف بعض الفقرات،.. إلخ. أما توماس مور فى يوتوبياه قد وضع تصوراً لطبيعة الوظائف فى تصوره لليوتوبيا فنجده يقول "ينظم عمال الزراعة فى مجموعات، كل مجموعة مكونة من 40 عضواً، على رأس كل منها مضيف ومضيفة، وتمنح كل مجموعة عبدين. ويعود عشرون عضواً من كل مجموعة إلى المدن بعد قضاء سنتين فى الزراعة ويخرج من المدينة عشرون عضواً ليحلوا مكانهم" بينما يؤكد أفلاطون فى جمهوريته على أن "كل الأبناء يتبعون مهنة آبائهم". ان الاستشهاد بهذه الأجزاء من تصورات الفلاسفة الغربيين عن اليوتوبيا ليس تعاملاً مع نصوصهما باعتبارها مطلقات وان هذا ما يتم تنفيذه انما نقوم بمحاولة الكشف عن الأفكار التى ساهمت فى تكوين كلا من الوعى و اللاوعى الجمعيين الحاليين لدى المجتمعات الغربية. وعلى الطرف الاخر الشرقى نجد الفارابى يرسى مفهوماً لتصوره عن المدينة منطلقاً من تصوره للمجتمع كجسد، ورغم أننا وجدنا هذه الصورة سابقاً عند عرض تصور أفلاطون فى جمهوريته، إلا انه عند الفارابى كان العضو المركزى هو القلب، وليس العقل قائلاً: "وكما أن البدن أعضاؤه مختلفة، متفاضلة بالفطرة والقوى، وفيها عضو واحد رئيسى، وهو القلب، وأعضاؤه تقرب مراتبها من ذلك العضو الرئيسى {...} وأعضاء أخر، فيها قوى تفعل أفعالها، على حسب أغراض هذه التى ليس بينها وبين الرئيس واسطة؛ فهذه فى الرتبة الثانية. ثم هكذا، إلى أن تنتهى إلى أعضاء تخدم ولا ترؤس. وكذلك المدينة، أجزاؤها مختلفة النظر، متفاضلة الهيئات. ومنها إنسان هو رئيس، وآخر يقرب مراتبها من الرئيس. وفى كل واحد منها هيئة أو ملكة، يفعل فيها فعلاً، يقتدى به ما هو مفطور ذلك الرئيس، وهؤلاء هم أولو المراتب الأول {...} ثم هكذا تترتب أجزاء المدينة، إلى أن تنتهى إلى أخر يفعلون أفعالهم على حسب أغراضهم، فيكون هؤلاء هم الذين يخدمون." ان طبيعة النظام فى تصور الفارابى تبدو مختلفة عن التصورات الغربية فلا يمكننا هنا أن نميز موقعاً مميزاً منفصلاً عن الواقع للفارابى يمكنه من تنظيم المجتمع بشكل كامل كما كان افلاطون أو توماس مور يفعلان حين وضعا تصوراً لوظائف أفراد المجتمع فوجدناه يقول: "غير أن أعضاء البدن طبيعية، والهيئات التى لها قوى طبيعية وأجزاء المدينة، وإن كانوا طبيعيين، فإن الهيئات والملكات التى يفعلون بها أفعالهم للمدينة ليست طبيعية. بل إرادية." فحيث أن مرجعية الفارابى النهائية لم تكن مادية كامنة فى الطبيعة بل متجاوزة لها فقد أدرك أن المقارنة بالجسد لها حدود فكل وظائف الجسم طبيعية، بينما فى المدينة هى إرادية، حيث أن أعضاء المدينة يفكرون ويشعرون ويفعلون أما فى الجسد فإنها لا تريد بل هى فاعلة بقوة الطبيعة. هناك إذن نوعين من النظام يتضح أن أحدهما ينتج بوضع نظام الحكم خارج الواقع ذاته لكى يستطيع تنظيمه من خارجه فينقسم المجتمع إلى خارج وداخل، داخل يعيش ويمارس نشاطه الإنسانى وخارج متمثلاً فى الحكومات يحاول تنظيم ذلك الداخل، وتصبح الحياة عبارة عن عملية صراع وتدافع دائمين بين الداخل والخارج. وعلى النقيض من ذلك نجد أنه فى نمط السلطة التقليدية فى الشرق لا ينقسم الأمر إلى ثنائية الداخل والخارج فكان هذا النظام على العكس من ذلك مجتمعاً متحرراً من هذه الصراعات، فهو إطار من العلاقات يجد فيه الفرد نفسه على اتساق مع بيئته. كذلك درس ابن خلدون فى مقدمته الاحوال السياسية والتاريخية، التى فى ظلها يظهر العمران، ويزدهر، ويضمحل، وكلمة "العمران" يوضح ابن خلدون معناها على أنها مجالات الفعل الإنسانى المختلفة وهى تشمل فى معناها اللغوى العديد من المعانى المركبة والتى لم يكن من الممكن الفصل بينها مثل (يسكن، يرفع، ينصلح، يفلح، يزدهر، يمتلىء، يحيا، يبنى، أو يعيد بناء) وهو المصطلح الذى تجرى ترجمته فى السياقات الغربية ترجمة غير موفقة بمفاهيم مادية مثل construction أو civilization. بينما كان يدرسه ابن خلدون على أنه الأحوال التى يمكنها أن تحقق البناء آخذة ما أسماه ب"دورة العمران صعوداً وهبوطاً". ان تصور ابن خلدون عن عملية العمران، يبدو تصوراً شديد الديناميكية ويحمل معان عدة تتميز كلها بأنها غير ساكنة أو أنها أحوال ثابته وهذا يجعله متأصلاً فى فكرة النمو التلقائى الطبيعى التابع لحركة المجتمع، وليس تصورا متكوناً من خلال التمايز بين كيانين مختلفين للمدينة أحدهما تمثيلى ومثالى وهو المخطط السابق للتنفيذ والآخر هو المادى الذى يتم انشاءه تبعاً للتصور المسبق. ما يبدو لنا أذن أن التصور الغربى للنظام تصور "استاتيكى" أو ساكن أو صلب لأنه يضع تصوراً للنهاية الأمثل للمجتمع الإنسانى مما يعنى أن الفلاسفة الغربيين وضعوا تصوراً للوضع المثالى الذى سنصل إليه فى النهاية عند تطبيق بعض الإجراءات بينما التصور الشرقى لدى الفرابى وابن خلدون لم يتسم بذلك السكون انما كان تصوراً "ديناميكياً" دائم الحركة والتدافع فلا نفهم من الفرابى متى سنصل إلى المجتمع الأفضل فهو لم يتحدث عن وضع أفضل أو أكثر مثالية إنما كان يصف حالة التدافع التى تمر بها المجتمعات فى المدينة وكان ابن خلدون يتحدث عن دورة العمران صعوداً وهبوطاً. تلك الحالة التى ميزت التصورات الغربية من خلق ثانئية الداخل والخارج مع الاستعداد الأوروبى للتخلى عن بعض التلقائية والعفوية فى سبيل الأمان من خلال التنظيم والتصنيف والتقسيم الآلى الحاد ومع محاولاتهم الدؤوبة لتصميم نظام دولة يصلح لكافة البلدان على حد تعبير تيموثى ميتشيل خلق ما أسماه نيتشه الصنم الجديد داعياً الناس على لسان زرادشت إلى الصلاة له لأنه أصبح بديل للإله على الأرض لكن باسم العلم و النظام والأمان باعتبارها محتكرة للعنف ومسيطرة على التعليم والإعلام والقانون وباستخدام هذه الآليات كلها باعادة تشكيل وعيهم وخلق هوياتهم لكى يصبح انتمائهم للدولة القومية بينما كانت الدولة فى النظام الشرقى التقليدى غير ذات حدود محددة بشكل هندسى حاد وانما كانت تتحدد بانتماء المجتمع ذاته وهويته فلم تكن الدولة سابقة على الهوية وانما كان الهوية هى من تحدد حدود الدولة ولم يكن نظام الحكم فى النظم الشرقية التقليدية يملك وسائل اعادة تشكيل وعى المجتمع. نقف الآن عند نقطة فى غاية الأهمية أنه على الدولة القومية أن تعيد استخدام الانسان من أجل استقرارها ونموها وليست الدولة لاحقة للإنسان وبناء عليه فهى فى اضطرار دائم لخلق هوية متخيلة ليتمسك بها حيث أن حدود الدولة القومية هى حدود إدارية نظامية وليست حدود مبنية على أساس اعتقاد أو فكرة وفى ذلك يلاحظ الشهيد سيد قطب فى معالمه أنه الأكثر رقياً أن يكون الانتماء للدولة مبنياً على أساس اعتقادى لأن الإنسان لا يتحكم فى الحيز الجغرافى الذى يولد فيه ولا فى لونه أو عرقه أو غير ذلك، ولكن فى حالة الدولة القومية الحديثة لجأ الإنسان إلى الأيديولوجيا لكى يخلق هوية متخيلة تصنع نوعا من التماسك بين أفراد المجتمع وقد وصف ماركس سابقاً الأيديولجيا بأنها "وعى زائف" لذلك وجب علينا أن نحاول بإذن الله أن نوضح الفارق بين الأيديولجيا وبين العقيده والمذاهب فى الاسلام منطلقين من الخلاف الحادث فى الوقت الراهن عن موقف الأزهر وعقيدة الأشاعرة وخلافهم مع السلفيين المحدثين فى مصر فى المقال القادم بإذن الله تعالى. _______________________________ * http://altaghieer.com/node/89623