أثبتنا – في دراسات سابقة معمقة – حقيقة الاختلاف الشاسع بين مفهوم الدولة الثيوقراطية في الفكر السياسي والفقهي والفلسفي الإسلامي، وبينه في واقع التاريخ الإسلامي، ويرجع ذلك إلي أن الفقهاء يختلفون أساسا في أحكامهم الفقهية العامة لتباين الاجتهادات – نتيجة الاختلاف في درجة المعرفة – واختلاف الزمان والمكان ومعطيات الواقع، فما بالك بالنسبة للسياسة – كمبحث من مباحث علم الفقه – التي هي أكثر المسائل تعقيدا في مجتمع جغرافي متنوع، ومتعدد الإثنيات والنزعات العرقية والمذهبية. أما الفلاسفة – خصوصا الفارابي – فتتسم إديولوجياتهم السياسية بالطوبوية، باعتبارهم ينشدون «المثل الأعلي»، فكانت تصوراتهم لمفهوم الدولة أبعد ما تكون عن التحقيق، أما كتاب «الأحكام السلطانية»، فقد قعدوا لنظم «شوهاء» – ما لم تكن منحطة – دأبوا علي تبريرها كأمر واقع. غرفة مظلمة لذلك، حق للمفكر المغربي المرموق – عبدالله العروي – أن يقول بأن البحث في التراث الإسلامي عن مفهوم الدولة، كالباحث عن قبعة سوداء في غرفة مظلمة..!! وأن محاولة الباحث عن الحقيقة عليه بأن يتسلح بثقافة سياسية خارج «دار الإسلام» زمانا ومكانا. من هنا تكمن خطورة الإشكالية وتزداد إبهاما في الوقت الحاضر بالنسبة للتيارات الإسلاموية المعاصرة التي تراهن – دون أدني معرفة – علي إحياء ما تراه أنموذجا لدولة ثيوقراطية موروثة عن عصور لم تكن أنموذجية أصلا، ناهيك عن مغالطة مقولة «الإحياء» – في حد ذاتها – في عالم لا يرتبط بماض قطع معه، فأبدع نماذجه الحداثية التي تحقق للإنسان كرامته وسعادته، ومن الغرابة بمكان أن يكون دعاء «الإحياء» من أكثر القوي الاجتماعية والسياسية «غرقا» في الاستمتاع ببضاعة من أبدعوا الدولة الوطنية المدنية الديمقراطية الحديثة، ومع ذلك يتشدقون بمقولات – حفظوها عن ظهر قلب – من الكتب «المحنطة الصفراء» التي عافتها العتة والقوارض عن «دولة الخلافة» المأسوف علي شبابها. تستهدف مقالاتنا هذه، إثبات هشاشة الدولة الثيوقراطية إديولوجيا، وبشاعتها وانحطاطها تاريخيا، لا لشيء إلا ليعلم هؤلاء المتنطعون أن تحقيق حلمهم بعيد المنال، وإليكم البيان.. قانون الغلبة علي الصعيد النظري، كانت كل التنظيرات الإديولوجية لا علاقة لها بالإسلام، لا عقيدة، ولا شريعة، ولا حضارة، إذ كانت – باختصار – تجسيدا ممسوخا لأفكار سياسية إما موروثة عن العصر الجاهلي، كقانون «الغلبة»، أو عن دولة «الطغيان الشرقي» ممثلا في التراث والتاريخ الفارسي، في صياغة «إسلاموية» – لا إسلامية – تبرر للغلبة والطغيان، وهو ما أوجزه الأستاذ «العروي» في مقولة صائبة فحواها أن «ما نسميه الدولة الإسلامية تستمد عناصرها المكونة من الدهرية العربية، والتنظيم الهيراركي – الهرمي – الآسيوي والأخلاقية – الظاهرية الإسلامية». لنحاول – في إيجاز – إذ سبق لنا التفصيل في كتاب «الخلافة الإسلامية بين الفكر والتاريخ»، وبتفصيل معمق وموثق ومفلسف في مشروع سوسيولوجيا الفكر الإسلامي، محاولة تنظير – برهنة مقولة «العروي» هاته. في مجال الفقه، عزف الفقهاء عن الكلام في السياسة عموما وعن «الخلافة» خصوصا، لا لشيء إلا لقناعتهم بمفاسدها التي انتهكت أوليات الشريعة، لذلك ركزوا علي الشريعة، لتعكس كتاباتهم بصددها موقف الرفض لنظام الخلافة، يقول ابن القيم الجوزية: «إن الشريعة مبناها وأساسها علي الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلي الجور، وعن الرحمة إلي ضدها، وعن المصلحة إلي المفسدة، وعن الحكمة إلي العبث، فليست من الشريعة، وإن دخلت فيها بالتأويل فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه..». في نفس السياق، يقول الفقيه ابن فرحون: «السياسة نوعان، سياسة ظالمة تحرمها الشريعة، وسياسة عادلة، تخرج الحق من الظالم، وتدفع كثيرا من المظالم، ويتوصل بها إلي المقاصد الشرعية..». فقهاء السلطان أما فقهاء السلطان، فقد كتبوا في السياسة صراحة، كما هو الحال بالنسبة للإمام الغزالي، إذ برر للخلافة العباسية – خلال عصرها المتأخر – رغم مفاسدها وضعفها، فاعتبرها «خلافة دينية» «وواجبا شرعيا ليس له طريق العقل». بل برر لطغيانها – نقلا عن الأدبيات السياسية الفارسية – إذ قال: «الدين والسلطان توأمان، وبدون السلطان تحصل الفوضي وتعطل الحدود» ولما استبد السلاجقة بالسلطة واغتصبوها من الخلفاء، برر مشروعية تسلطهم، حيث قال: «السلطان ظل الله في أرضه، فينبغي أن يعلم أن من أعطاه الله درجة الملوك، وجعله ظله في الأرض، فإنه يجب علي الخلق محبته، ويلزمهم طاعته، ولا يجوز لهم معصيته ومنازعته.. فالله يؤتي ملكه من يشاء» أما عن الرعية، فلم يقم لها وزنا، اللهم إلا طاعة السلطان حتي لو كان جائرا، مبررا ذلك ب «درء الفتنة»، وهنا نلاحظ تأثره بالفكر السياسي في بيزنطة المؤسس علي قراءات ذرائعية للكتاب المقدس تجعل من الدين سندا للطغيان. في مجال علم الكلام والفلسفة، نقف في كتابات أبي الحسن الأشعري الكلامية علي مفهومه عن الدولة الثيوقراطية التي اعتبرها «قدرا إلهيا»، فمقولاته عن «الجبر» موقفه من «مرتكب الكبيرة» وغيرها يسبغ علي الخليفة تصوره عن الخالق، باعتباره خليفة الله علي الأرض، وإن بطريقة غير مباشرة، بل مستبطنة، فقد انتهك مبدأ الشوري، واختزله في مبدأ «البيعة» الشكلاني، حين كانت تنتزع بالترهيب حين لا يجدي الترغيب. وحسبنا إلحاحه علي مقولة «الإمامة في قريش» التي صارت ديدنا لفكر «أهل السنة» السياسي، لذلك صدق الصديق سعيد بن سعيد العلوي حين اختزل فكره السياسي في مقولة: «أنه هو الذي صاغ إديولوجية السلطة الرسمية»، بل برر ظلم الرعية واستئثار الارستقراطية بالثروة دونها حين ذهب إلي أن «الأرزاق يقدرها الله، فهو يعطي من يشاء بغير حساب». ابن خلدون أما ابن خلدون، فقد تأثر في فكره السياسي بالأشعري والغزالي معا في تصوره عن الدولة الثيوقراطية، إذ قال بقانون «الغلبة» في حديثه عن «العصبية»، واعتبر «الدعوة الدينية» ضرورة لتأسيس الدولة «عريضة الملك عظيمة الاستيلاء»، مع ذلك يحمد له قوله بأن «الخليفة» يستمد سلطته من الرسول – صلي الله عليه وسلم – وليس من الله سبحانه، كما ميز بين الخلافة والملك فاعتبر أن الملك – لا الخلافة – «يحصل بالتغلب»، ورغم انحيازه للاستبداد، لم يضف طابع القداسة علي الملوك والخلفاء. أما عن الفلاسفة، فلا تخلو أنساقهم الفلسفية من أبعاد سياسية، كما هو حال ابن سينا وابن باجة وابن طفيل وابن رشد، لكن تصوراتهم عن الدولة تدور في إطار الدولة المدنية، وإن عولوا علي «الرمز» من باب «التقية»، وإذ أفصح الفارابي عن تصوره في كتاب «آراء أهل المدينة الفاضلة» الذي اعتبره طرقا لباب ما أسماه «الفلسفة العملية»، كان حصاد تصوره «يوتوبيا»، بما يؤكد تقيته أيضا. وحسبنا أنه حاكي «جمهورية أفلاطون» في أنموذجه مع إعطائه لبوسا إسلاميا شيعيا، خصوصا فيما يتعلق بأخلاق أهل المدينة التي أوكل رئاستها إلي «إمام» مستنير ليحقق «النظام والوحدة والعدالة»، كما عول علي «تطهير الشريعة من الجهالات عن طريق الحكمة»، شأنه في ذلك شأن جماعة «إخوان الصفا»، وقد انحاز لطبقة العامة والطبقة الوسطي منددا بالارستقراطية الثيوقراطية والبلوتوقراطية – كبار الإقطاعيين – مستلهما مبدأ العدالة الاجتماعية من روح الإسلام وسياسات الأئمة العلويين. ضرورات الماوردي ومحظوراته أما عن كتاب «الأحكام السلطانية»، فقد انحازوا إلي نظام الخلافة، حسب تقاليد دولة الرسول – صلي الله عليه وسلم – وسير الخلفاء الراشدين، ولم يحل ذلك دون تبريرهم مشروعية الحكم الأموي والعباسي، ويعد «الماوردي» رائد هذا النوع من الكتابات السياسية التي تعقد وتبرر لما كان قائما بالفعل status quo أكثر مما تطرح من أفكار وتصورات، وحسبنا أنه برر مشروعية حكم سلاطين البويهيين الذين كانوا يعتنقون المذهب الشيعي الزيدي، برغم كونه سنيا أشعريا محافظا، ويحمد له إفصاحه عن مراعاة الأمور الدنيوية في رؤيته للدولة، وهو ما يفسر نزعته للاستشهاد بأدب السياسة عند الفرس والإغريق، كذا وضع الاعتبار لمقاصد الشريعة كوسيلة لإصلاح المجتمع، ومبدأ «الضرورات تبيح المحظورات» الذي أخذ به الفقهاء المستنيرون من أهل السنة، والأهم، ربطه مشروعية الحكم بتحقيق مصالح الرعية، بما يعد طفرة نوعية في أدب السياسة، أما أبويعلي الفراء، فقد تأثر بأطروحات الماوردي المستنيرة، وحسبه جرأته في القول بأن الخلافة في عصر الراشدين قامت وفق مبدأ «الغلبة». بعد سقوط الخلافة العباسية، وقع تطور ملحوظ في كتب الأحكام السلطانية، مفاده الإفصاح، إلي حد الجسارة – عن مواقف الكتاب من النظم المستبدة القائمة، وفي هذا الصدد كانت مرجعياتهم تتمثل في أدب السياسة عند الفرس، وواقع مجتمعاتهم بطبيعة الحال، ولم يتردد بعضهم – مثل أبوبكر الطرطوش – في نصح الحكام وترشيدهم، ودعوتهم لاتباع سياسات عادلة، والاهتمام بمصالح الرعية. فلم يتورع «الأقحصاري» – علي سبيل المثال – عن تعرية نظام الحكم العثماني – الذي جمع بين الخلافة والسلطنة – بإظهار إفلاس السياسة الجائرة وما ترتب عليها من ظلم وفساد اجتماعي وأخلاقي يؤذن بسوء المصير ومغبة المنقلب. يبقي السؤال: إلي أي مدي تأثر الواقع التاريخي بالفكر السياسي النظري؟ ذلك ما سنجيب عليه في المقالات التالية.