ليس ثمة شك في أن مفهوم «الدولة» كان ولايزال ملتبسا في مخيال الثيوقراطيين «الداعين للدولة الدينية»، لذلك، يتصدي هذا المقال لتحديده في الفكر السياسي النظري، كما نعرض في المقال التالي لرصد واقع الدولة في التاريخ وننوه بأننا سنكرس عددا من المقالات – فيما بعد – عن الدولة في الإسلام علي المستويين الفكري والتاريخي. علي الصعيد النظري، ثمة نوعان من تصور «الدولة» أولهما يتعلق بالدولة المثالية أو «اليوتوبيا» التي لم تتحقق علي أرض الواقع، وثانيهما خاص بالفكر السياسي الذي يتعلق بالدولة المدنية في صيغ متعددة، ملكية، أو جمهورية أو «بلوتوقراطية» – يحكمها الأغنياء – أو ديمقراطية، أو ديكتاتورية – حكم الفرد – وإن تعددت صيغ وطابع كل نوع منها حسب معطيات التاريخ. الدولة المثالية أما عن مفهوم الدولة المثالية، فيعد أفلاطون أول من قدم أنموذجا بصددها، وعلي منواله نسج الكثيرون من المفكرين خلال العصور التالية، وتتسم تصوراتهم بمسحة إنسانية حالمة تستهدف وضع حد لشرور المجتمع، وتتبني نزعة خيرة لإصلاحه، بل منهم من وضع تصورا لدولة عالمية تتحقق فيها أحلام البشرية في السلام الدائم، والرخاء، والعدالة الاجتماعية، والسمو الأخلاقي، وهي مثل عليا يمكن أن نوجزها في قيم «الحق والخير والجمال» التي تتلخص أيضا في كلمة «السعادة». علي أن اختلاف أصحاب اليوتوبيات بصدد مفهوم السعادة أدي إلي تنوع تصوراتهم عن «الدولة المثال»، فمنهم من تصورها دولة مشاعية تنتفي فيها الملكية الخاصة، باعتبارها أس الشرور التي عانتها البشرية، ومنهم من اعتبرها مقدسة لأنها هي الحافز علي العمل والدافع للارتقاء، ومنهم من دعا إلي المساواة بين البشر عموما، والرجل والمرأة خصوصا، ومنهم من ذهب إلي عكس ذلك، لا لشيء إلا للخروج علي الفطرة البشرية، منهم أيضا من قصر مفهوم السعادة علي الرفاهية المادية، وذهب آخرون إلي ترسيخ القيم الروحية، خصوصا ما يتعلق بالدين والحريات. الحاجة للقانون كما يرجع اختلاف تلك التصورات إلي اختلاف المفاهيم بصدد النظام الطبيعي، أو الفطرة الإنسانية، وما يتعلق بحرية الفرد المطلقة، أو الحاجة الماسة إلي القانون المنظم لحياة الجماعة، بل دعا البعض إلي «الفوضوية» ورفض سلطان الدولة بالكلية. كما تفاوتت النظرة إلي مفهوم الدولة، ما بين دولة المدنية، أو دولة الشعب أو الأمة، أو العالم، وهكذا دواليك، جري الخلاف بصدد مفهوم العلاقات الجنسية ما بين المشاعة والزواج، كذا بالنسبة لقضايا التعليم، والعمل، والطبقة، ومفهوم الأخلاق، وطبيعة الحكم، والإبداع.. ونحوها. لا يتسع المجال لعرض مجرد نماذج من تلك اليوتوبيات، وحسبنا الإشارة إلي أن بعضها – كجمهورية أفلاطون – تحققت بعض قيمها بالفعل، خصوصا في الدول الاشتراكية لكنها جميعا عبرت عن حلم للإنسانية يعانق آمالها في الخلاص من شرور النفس البشرية، وهو أمر بعيد المنال، وننوه بأن تصور «السير توماس مور» لتلك الدولة الفاضلة، هو الذي أطلق عليه مصطلحه المتداول لفظ «اليوتوبيا»، ومن يدري؟ فقد تتحقق تلك اليوتوبيا في صورة «فردوس أرضية فيما تنبأ به «كارل ماركس» عن الدولة الشيوعية العالمية، أو ما ورد في القرآن الكريم بصدد بلوغ «الأرض زينتها وزخرفها» حين تكتمل رسالة الإنسانية في عمران العالم، وعندئذ تكون نهاية العالم نفسه!! مفهوم الدولة إذا كان أفلاطون هو الرائد في الكتابة عن «اليوتوبيا»، فيعد أرسطو أول من كتب عن مفهوم «الدولة» في كتابه «السياسة»، إذ عكف أرسطو وتلامذته علي دراسة دساتير «أثينا» – التي تجاوزت مائة وخمسين عاما – ليحدد مفهوم الدولة ويعدد أشكالها ونظمها، ويميز بين مفهوم «الدولة» ومفهوم «الحكومة» فالدولة في نظره هي مجموعة من المواطنين المتعاونين لتنظيم علاقاتهم لإشباع حاجاتهم، ومن ثم تدفعهم ضرورة الاجتماع الفطري إلي تشكيل حكومة منهم تتولي تنظيم أمور الدولة وتحقيق سعادة أفرادها، لذلك قال إن الفرد «حيوان سياسي» Politikon Zoon – بالفطرة. كما عرض لنظم الحكم السائدة في عصره، فتحدث عن نظم الملكية، والارستقراطية – التي تحكم بالقانون – والدستورية المؤسسة علي حكم الأغلبية، واعتبرها نظما صالحة تستهدف تحقيق الصالح العام، كما رصد النظم الفاسدة، وعددها في حكم الطغاة، وحكم الأليجركية البلوتوقراطية – حكم الأغنياء – وحكم الغوغاء الموجه ضد الأغنياء. يجسد الصديق عبدالله العدوي – المفكر والمؤرخ المغربي المعروف – مفهوم الدولة – في إيجاز – في نمطين لا ثالث لهما، «دولة القانون» التي تنسجم فيها علاقة الحاكم بالمحكوم، وهو ما أطلق عليه «الدولة الطبيعية أو المعقولة»، أما الدولة الاستبدادية فهي فاسدة «لأنها غير طبيعية»، لأنها مؤسسة علي الغلبة، ومن ثم تناقض المجتمع وتستعبد الشعب، فهي لذلك «مؤامرة ضد الإنسانية»، عندئذ تتحول الدولة إلي «أسطورة» مجافية للعقلانية، ومن ثم فهي تقيد حرية الفرد التي فطر عليها، علي حد قول «أرنست كاسيدر» الذي نعتها بصفة «الدولة الاصطناعية». وعندنا، أن العامل الحاسم في التمييز بين الدولة العقلانية والدولة الأسطورة يكمن في الموقف من الاقتصاد، إذ هو الذي يحدد نمط استغلال الثروة، وتوزيعها، فضلا عن صياغة دستورها، ووضع قوانينها التي إما توجه الاقتصاد لخدمة المجتمع، أو لاستئثار الأقلية لمعظم عائد الإنتاج، وفي هذا الإطار وتأسيسا عليه، يجري بناء مؤسسات الدولة التي تعكس بدورها الوضع الطبقي، ولا غرو، فقيام الدولة المدنية الحديثة ارتبط بسيادة النظام الرأسمالي، خصوصا بعد الثورة الصناعية، حيث شكل الصراع بين طبقة الرأسماليين الصناعيين وبين طبقة العمال حجر الزاوية في تطور مفهوم الدولة، ذلك المفهوم الذي بشر به وألح عليه ثلة من الفلاسفة والمفكرين منذ عصر النهضة في أوروبا وحتي عصر الأنوار في القرن الثامن عشر، لقد أجمعوا علي تأكيد مبدأ «حرية الفرد» كنتيجة لتحقيق حرية الاقتصاد – دعه يعمل، دعه يمر – أي حرية العمل وحرية التجارة، وهو ما تجسد في مصطلح «الليبرالية». حرية الفرد في هذا الصدد، يري الفيلسوف «هيجل» أن حرية الفرد قد تصطدم بسلطة الدولة إلي حين، لكن الصدام ينتهي لصالح حرية الفرد في النهاية، وإذ ألح علي ضرورة الخضوع للدولة – كقوة مطلقة مستقلة عن المجتمع – فقد اعترف بأن عليها أن «تحقق مبدأ مبادرة الفرد لكي يعمل حسب رأيه الخاص؟» لا لشيء إلا لأن مهمة الدولة أساسا أن تكون في خدمة المجتمع الذي يرعي مصلحة الفرد، وتحقيق الرخاء والسعادة والأمن والحرية. أما «فيخته»، فقد حدد سلطة الدولة في نطاق ضيق لصالح الفرد، إذا اعتبر حريته المطلقة تفوق قوة القانون، لا لشيء إلا لأن الفرد بفطرته مدعم في داخله بقانون الأخلاق، وعندنا أن انحياز هيجل لمفهومه عن الدولة نابع من حاجة الدولة البروسية لتحقيق وحدة ألمانيا، ومع ذلك، لم يسلم من انتقادات معاصريه من أمثال «كارل بوبر» و«جاك مارتان» و«شتراوس»، إذ ألحوا علي حرية الفرد، ونددوا بكل المحاذير التي تحد من حريته، حتي لو كانت دينية، والأهم أنهم اعتبروا الدولة الدينية محض خرافة، إذ لا تعدو محاولة بخسة لتبرير الطغيان باسم الدين. ماركس علم الاجتماع أما «فيورباخ»، فقد ندد بكل من يحمل «تصورات ما ورائية» باعتبارها تتناقض مع القانون والعقل والتاريخ، وفي السياق نفسه يري «ماركس» أن السياسة يجب أن تخضع للمجتمع كلية، فتتحول المؤسسات السياسية إلي هيئات اجتماعية، فبشر بذلك بسلطة ما عرف باسم «المجتمع المدني» باعتباره موئل السلطة، رضوخا لحقائق الواقع الاجتماعي، لذلك، يعد ماركس مؤسسا لعلم «الاجتماع التاريخي» ورائدا لعصر الأنوار الذي انبثقت منه الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة التي «تغمس الدولة في المجتمع»، علي حد تعبير عبدالله العدوي. لا شك أن جهودا سابقة لمفكرين أفذاذ قد مهدت لعصر الأنوار، فلا يمكن إغفال فلسفة «ديكارت» في التوطئة لسيادة العقلانية، إلي جانب ثورته المنهجية في العلوم الطبيعية، وهو ما أفاد منه مفكرون آخرون في مجال النظم السياسية والاجتماعية خصوصا فيما يتعلق بمفهوم الدولة المدنية الحديثة، وهو ما سنعرض له في المقال التالي.