العديد من الشعوب الأوروبية قاومت المحتل الغازي، وتفوقت عليه، والأهم من ذلك نجحت هذه الشعوب في إدارة ملف التنوع الداخلي من خلال التالي: إنتاج مكون معرفي جديد يعتبر تنوع أصول وأعراق ولغات وديانة المجتمع نقطة قوة وليس نقطة ضعف يجب القضاء عليها، وتحصين الحس الجمعي العام ضد الأفكار الانقسامية والفتنوية التي يمكن أن تهدد الوحدة الوطنية والقومية للأمة. وبمعنى أدق خلق حاسة جماهيرية مرهفة رافضة لأي فكرة يُشتم منها رائحة الطائفية أو الانقسامية، وتكونت هذه الحاسة عبر عقود من العمل الفكري والثقافي المضني من الفلسفة والحكماء والحكام المستنيرين، مرورا بمحطات الدموع والألم، وتراوحا بين النجاح والفشل، ولكن توفرت الإرادة العازمة على تجاوز مراحل الحروب والنزاعات الداخلية الدامية، وعدم السماح بتكرارها مرة أخرى بأي حال من الأحوال، وتجسيد تلك الأفكار التنويرية في دنيا الناس في شكل قصص وروايات وأفلام ومسلسلات، بحيث تنفذ في كامل النسيج الوطني على اختلاف مستواه الفكري والمعرفي والطبقي. ومن ثم تمثلت هذه الأفكار التنويرية في شكل دساتير وقوانين ولوائح كفيلة بتحقيق قيم الحرية والعدالة والمساواة لكل أفراد المجتمع بغض النظر عن عرقه أو دينه أو لغته، في محاولة للقضاء على مظاهر التميز والتحيز في المجتمع، ولا شك أن الأوروبيين قد نجحوا في هذا إلى حد كبير، على الرغم من بعض الإخفاقات الحقوقية الموجودة في الساحة الأوروبية، خاصة تجاه الأقليات غير الأوروبية. وتشترك مجمل الشعوب العربية المعاصرة مع الشعوب الأوروبية في مسار التخلص من الاحتلال الخارجي، والخروج إلى حد كبير من مربع الهيمنة الخارجية نحو الاستقلال الثقافي والاقتصادي، ولكن الشعوب العربية ما زالت تحتاج إلى جهود مضنية وكبيرة للتفوق في مسار حُسن إدارة التنوع الداخلي وتنظيف الساحة الداخلية لها من ثقافة الاستبداد والإقصاء والتخلف والجهل.