الأزمة الأوكرانية تطرح مؤشرات عديدة لتغيير واضح في موازين القوى العالمية، هذه المؤشرات وهذا التغيير تعكسها بوضوح تصريحات وكتابات نخبة من مفكري وساسة الغرب، الذين كانوا إلى وقت قريب من ألد أعداء روسيا، وكانوا يعتبرونها عدواً دائماً وشيطاناً مدمراً، ومنهم من كان على رأس مراكز صناعة القرار السياسي والاستراتيجي في واشنطن وأوروبا. ومن هؤلاء نذكر هنا المستشار الأميركي الأسبق هنري كيسنغر، صاحب مخطط احتواء الصين في منتصف السبعينات، وها هو الآن يتابع عن كثب ما حدث ويحدث في أوكرانيا، ويصف سياسة الرئيس الأميركي باراك أوباما بأنها تفتقر للرؤية والهدف، وأن إدارته لا تعرف شيئاً عن أوكرانيا وتاريخها، كما يقول إن روسيا لن تسمح لأحد بأن يأخذ منها أوكرانيا، ولديها القدرة على ذلك. وفي أميركا أيضاً كتبت رئيسة تحرير مجلة «ذا ناشيون» الأسبوعية الأميركية، كاترين هيوفل، في مقال لها في صحيفة «واشنطن بوست» تقول «مع الأخذ بعين الاعتبار الخلافات العميقة في المجتمع الأوكراني والمصالح الحيوية لروسيا في أوكرانيا، كان اعتراف واشنطن الفوري بشرعية السلطات الجديدة بمثابة استفزاز». وترى هيوفل أنه لا معنى لاعتبار أعمال روسيا تهديدا للنظام العالمي، خاصة وأن الغرب يحتاج إلى مساعدتها لتحقيق استقرار الوضع السياسي والمالي في أوكرانيا. وتتهم الكاتبة وسائل الإعلام والنخبة السياسية الأميركية بأنها حرضت إدارة الرئيس أوباما على اتخاذ خطوات غير بناءة في السياسة الخارجية، وأن ممثلين عن البيت الأبيض طلبوا عدم الكشف عن هويتهم، دعوا إلى معاملة روسيا على أنها دولة مارقة في إطار النسخة الجديدة من سياسة الردع، ويعني ذلك في رأي الصحفية الأميركية، عزل سادس أكبر اقتصاد في العالم يوفر لأوروبا أكثر من ربع حاجتها من النفط والغاز وله صلات قوية بالدول النامية، بما فيها الهندوالصين. وترى هيوفل أنه ما زالت هناك فرصة لتسوية الأزمة، قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة تماما ويخسر الغرب روسيا. شخصية ثالثة لها مكانتها في الدبلوماسية البريطانية، وهو السير أنتوني برينتون، الذي كان إلى وقت قريب من أعداء روسيا وكان سفيراً لبريطانيا لدى موسكو أعوام 2004 2008، أي في الفترة التي شهدت توتراً في العلاقات الروسية البريطانية بسبب «قضية ليتفينينكو»، وبسبب حرب جورجيا في أغسطس 2008، واقترح العام الماضي على منظمة التجارة العالمية معاقبة روسيا لرفضها استيراد البضائع من ليتوانيا، على اعتبار أن روسيا ضغطت على ليتوانيا التي كانت تترأس الاتحاد الأوروبي وتعمل من أجل توقيع اتفاقية شراكة مع أوكرانيا. رغم كل هذا العداء لروسيا، جاءت تصريحات الدبلوماسي البريطاني الأخيرة لصحيفة «الغارديان» حول الأزمة الأوكرانية، مخالفة لتوجهاته السابقة ومثيرة للتساؤلات، حيث قال برينتون «إن توسع الأزمة الأوكرانية هو إشارة إلى بروز نظام عالمي جديد». ويضيف قائلا: «خلال 20 سنة لم يأخذ الغرب روسيا على محمل الجد، وهو ما نلاحظه في حرب كوسوفو وتوسع الناتو. ولكن عندما انضمت شبه جزيرة القرم إلى روسيا، غير الغرب موقفه 180 درجة، في محاولة منه لكبح محاولات استعادة الاتحاد السوفييتي، ولحسن الحظ أننا استيقظنا لنرى أننا لا نتعامل مع روسيا كدولة انتقامية، بل مع روسيا التي تتعامل ببرود وهدوء. روسيا ليست دمية ولا تتوسل الرحمة، إنهم في روسيا لا يريدون الحرب ولا يريدون تحمل الأعباء الاقتصادية لإعادة إعمار شرق أوكرانيا، بل لديهم قائمة تتضمن طلبات قصيرة محددة؛ حياد أوكرانيا والحكم الذاتي الواسع للناطقين باللغة الروسية، وهذ الطلبات يجب علينا الموافقة عليها بسرعة قبل فوات الأوان». تصريحات حكماء السياسة في الغرب حول الأزمة الأوكرانية، كثيرة ولا يتسع المجال هنا لسردها، لكنها تشير بالفعل إلى ما قاله الدبلوماسي البريطاني برينتون، من أن الأزمة الأوكرانية تطرح نظاماً عالمياً جديداً لا مكان فيه للهيمنة الغربية السابقة. وكان خطأ الغرب الأكبر طيلة العقود السبعة الماضية، هو اعتقاده بأنه سيظل الأقوى اقتصادياً وعسكرياً للأبد، وأنه فوق المجتمع الدولي كله، وأن كل العالم مسخر لخدمة مصالحه. ولم يشعر الغرب بأخطائه الفادحة لأنه لم يكن هناك من ينبهه لها، والآن العالم يتغير جذرياً، والغرب لم يعد الأقوى اقتصادياً ولا عسكرياً، ولم يعد يستطيع فرض رأيه على الآخرين، كباراً أو صغاراً، وعليه أن يسارع بالتأقلم مع النظام العالمي الجديد، قبل أن يفوته الأوان ويزيد العداء والكراهية له، وتزيد خسائره. نوع المقال: روسيا سياسة دولية الولاياتالمتحدة الامريكية