في النصف الأول من القرن السابع الهجري، ظهر في قرية صغيرة في العراق رسام بمواهب فريدة من نوعها. كانت أعماله عزيزة على قلوب البسطاء من الرجال والنساء الذين انتموا إلى منطقة واسط، حيث ولد هذا الفنان ونشأ. وعلى عكس الفنانين قبله الذين تم التعرف على شهرتهم أولاً داخل دهاليز القصور التي تعود إلى من هم في السلطة، والذين قدمت أعمالهم رسوما توضيحية عن عظمة الملوك وسلطت الأضواء على المشاهير وانتصاراتهم في ساحات الوغى، فإن ما فعله يحيى بن محمود الواسطي بمهارة عالية، هو تصوير الحياة اليومية للمواطن البسيط في العراق. ورسومات الواسطي تظهر لنا جوانب من الحياة العامة تم تجاهلها من قبل الرسامين قبله. ومن أشهر صوره، الرسوم التوضيحية التي كلف بتوفيرها للعمل الكلاسيكي المشهور "مقامات الحريري" التي ألفها محمد الحريري البصري، والتي توفر للفاحص المتمعن في تلك الرسوم التوضيحية، فرصة نادرة لرؤية ملامح عديدة من ذلك المجتمع الذي لم يعد قائما، والذي لا يمكن استحضاره إلا عبر أعمال كتلك التي صورها الواسطي. العمارة والمفروشات والأزياء والأسلحة التي طواها النسيان وتم إحلالها بأدوات أكثر فعالية في القتال، كلها مصورة في الأعمال التي أبدعها هذا الفنان، الذي على الرغم من أنه عاش في فترة لاحقة للفترة التي قام بتصويرها، إلا أنه مع ذلك وفر صورا واقعية عن كل الجوانب المهمة من الحياة اليومية وقت كتابة مقامات الحريري. وأساس تصويره يتعلق بشكل الإنسان الذي تكسوه ملابس خاصة يفرضها السيناريو القائم، سواء أكان المشهد من سوق الرقيق، أو من جنازة، أو مشهدا من محكمة. وإحدى لوحاته التي حظيت بكثير من النقاش، تصور امرأة وهي تلد. وإلى جانب توفيره سجلات ملونة عن جوانب مختلفة من الحياة اليومية في عصره، استغل الواسطي أيضا الأحداث التي تجري غالبا خارج كنف المنازل. يكفي النظر، على سبيل المثال، إلى طريقة تصويره للجمل، وهو حيوان كان يستخدم في العصر الذي قام بتصويره أكثر مما هو في عصرنا الحالي، للإقرار بأن الواسطي أعطى للجمل "شخصية" خاصة تختلف من جمل إلى آخر، بأسلوب خاص يعود لأسلوب رسم الفنان الشخصي، وأظهر طريقة فريدة في رؤية الأشياء والحيوانات التي كانت جزءا من نسيج حياة عدد كبير من الأفراد، دون أن تكون حتى تلك اللحظة قد أعطيت حق تقديرها وجرى النظر إليها باعتبارها جديرة باهتمام الفنان وريشته. كان الواسطي واعيا لقواعد الرسم المتعارف عليها، والتي تنص على أن العالم مسطح، يتألف فقط من بعدين، الطول والعرض، لكنه في الوقت نفسه وظف المرئي أو العالم ثلاثي الأبعاد. ورسوماته التي تصور الناس، كان لديها بعدان على قماش الكتان، لكن كان لها أطيب الأثر عند وضعها على مسافات متساوية بعيدا عنه. وعلى الرغم من تحديها للتقليد السائد، إلا أنها كانت تعطي التمثيل الأصيل والحقيقي لما يرجى منها. كان الواسطي الرسام المتميز لمدرسة بغداد في التصوير، التي مزجت الفن التركي بالرسم الفني المسيحي المحلي (ربما السرياني)، في توفيق رائع جميل للمعتقدات الإسلامية. والواسطي لم يكن أول من رسم بهذا الأسلوب، لكنه بالتأكيد كان الأفضل بين الفنانين الذين نجت أعمالهم. كان الواسطي من مواليد بلدة واسط في جنوبالعراق، ولا يعرف الكثير عن حياته، وتستند شهرته فقط إلى أعماله، ورسوماته التوضيحية لمقامات الحريري، وهي سلسلة من الحكايات تدور حول مغامرات محتالين تتسم بروح الدعابة من القرن الثاني عشر، وكان هذا العمل يحرز شهرة واسعة في وقته. والرسوم التوضيحية ال96 تتسم بجودة عالية، حيث تبرز شخصيات معبرة وألوان حية، مما يشكل رسومات توضيحية خاصة بكتاب يتمتع بجودة عالية. ومن زاوية أخرى، فإن الأهمية الاجتماعية للواسطي تتجسد في واقع أن رسوماته، على الرغم من أنها رسومات توضيحية، إلا أنها لا تخفق أبدا في أداء مهمتها، وإبراز ملامح الحياة الإنسانية اليومية بالتفاصيل ككل، وجوانب من الحياة في الهواء الطلق، مثل مواكب الفرسان ومشاهد الخطبة والرعاة والحجاج، يجري تصويرها بالترافق مع جوانب من الحياة اليومية وراء أبواب موصده ومنازل ومدراس ومناسبات احتفالية بالأعياد، وغيرها. وهذا الاهتمام بالحياة الاجتماعية للإنسان لم يكن أمرا يتفرد به الواسطي، ذلك أنه في وقت لاحق كان سائدا في الفن الإسلامي داخل بلاد الفرس حتى القرن الحادي عشر، عندما ظهر النفوذ الأوروبي. ورسومات الواسطي من دون شك، لها طابعها الفردي الخاص، حيث إنه لم يقتصر على جمع الناس معا في رسوماته، بل قام برسمهم بالتفصيل، وأعماله تشمل أناسا وحيوانات ونباتات وأشياء. وفي عمله، نجد أن الشخصيات التي يجري رسمها، هي نساء وأطفال من القرى في وضعيتهم الطبيعية، وهم مستغرقون في حياتهم اليومية، وليس كما لو أنهم ضمن إطار يتصوره الرسام.. وهذه هي قوة هذا الفنان العظيم وإرثه. نوع المقال: عام