ربما لأن هذا العنوان لم يسبق له أن مثّل مطلبا مُلحّا للتوضيح ولا ضوءا كاشفا للرؤية أو شرطا رئيسا لتصحيح مسيرة حياتنا المضطربة ومستقبلنا المهدد قدر ما يمثله الآن؛ لا يعنى ذلك أن كتابات لم تكتب فى تعريف الثقافة وتحليل عناصرها والإشارة إلى دورها فى بناء البشر وتنمية قدرات الإنسان. وإنما يعنى أن صفحات كثيرة حررّت فى كتب، ومقالات دبجت فى صحف، بالإضافة إلى أحاديث ولقاءات مفرطة فى الكثرة مع «مثقفين»، أذيعت وبثت حول كلمة الثقافة وأهميتها ودورها دون أن تُحدث أثرا مُرضيا أو تترك علامة مقنعة تدل على فاعليتها ونجاعتها، أو تؤكد ثبوت الحاجة إليها فى أوقات الأزمات. وحتى بعد أن ثبتت لنا رؤيتها الفاعلة، وتأكد لنا وجود بذرتها واستقرار نواتها فى عقولنا وضمائرنا ذات لحظة أو أكثر من لحظات تاريخنا الهامة نذكر منها -على سبيل المثال- تلك الهبّات المتفرقة المذهلة و «المفاجئة» فى الجامعات المصرية التى انطلقت مساندة لأطفال الحجارة فى فلسطين أو متظاهرة ضد الهجوم الصهيونى الوحشى على قانا، أو محتجّة على تدمير غزة أو تدنيس القدس -سواء بالوطء أو بالهدم أو بتغيير الملامح والاستقطاع- والتى قام بها شباب مصريون كنا نظنهم أطرى من أن يتعلقوا بالسياسة، وأرقّ من أن يهتموا بمشكلات الوطن، وأبعد من أن ينشغلوا بمستقبل فلسطين أو تضنيهم كوارث أهلها.. شباب كنا نرى أن طوفان الأغانى المائعة والمسلسلات الرخيصة -المحلية والأمريكية- قد جذبهم بعيدا عن ضفاف الوطن، وقريبا مما يريد أعداؤهم ومستغلوهم، وأن مناهج التعليم الركيكة ومقررات التربية الناجعة المهملة وشدائد الحياة اليومية ومعاناة المعيشة القاسية، قد غيبّتهم عن الواقع وصرفتهم عن التفكير فى تغييره إلى عالم آخر «افتراضى» يهربون إليه فيلتقون «وهمًا» على صفحات «فيس بوك» مثلما يشبعون حاجتهم تخيّلا ويحققون أحلامهم بالهروب؛ فإذا بهم قد خيّبوا كل توقعاتنا «الظالمة» حين انتفضوا وثاروا رغم شدة الاستبداد واستماتة القبضة الطاغية، بل ورغم التربية «السيئة» أو المتعمدة لإفسادهم بكل وسائل الإغراء وإلهائهم عن الغايات الوطنية الكبرى وصرفهم عن التفكير فى هموم الوطن وشقاء المواطنين. ولولاهم لما تحولت حركة الغضب والاحتجاج الجمعى الشاب فى الخامس والعشرين من يناير 2011 م إلى ثورة!. أما التفسير الوحيد لكل ذلك فجوهره كامن فى تلك النقطة العتيقة المتجمِّرة داخل «عقلنا الجمعى» التى يختزن فيها الغضب طويلا ويتعتق حتى ينضج فيتحول إلى تمرد، وتتوقد فيها النار حتى تتحول إلى لهيب، ويضطرم فيها اللهب فإذا بها تضيق بكل ذلك فتنفجر وتحرق وتسيّل الدماء. لكنها -لدى المصريين- اكتفت بأن تغنى وأن تنشد وأن تتوضأ وأن تؤذن للصلاة وتعلن إقامة القُدّاس، وأن تطلق الأدعية وترفع الأكف بالدعوات حول «النُهَير الصغير» للدماء الطاهرة التى أريقت، وحول الأرواح التى صعدت إلى بارئها كفّارة عنا جميعا وفداء لآلاف الأرواح التى لم تزهق، وأنهار الدماء التى لم تسفك، ولم تنج منها ثورة واحدة فى التاريخ!. حدث ذلك الومض أو الانفجار فى مصر عدة مرات فى تاريخها الفرعونى والحديث: ثورة عرابى، وثورة 1919، وحركة الضباط الأحرار فى 1952 التى حولها الشعب إلى ثورة، ثم ثورة الخامس والعشرين من يناير الأخيرة أشد تنويعاتها نضوجا واكتمالا، فى إثبات عملى لتلك القوة السحرية الكامنة فى عقلها الجمعى، التى ثبت أنها لا تخمد بل تستعد، ولا تنطفئ بل تتجمّر ثم تنفجر وتتجلى فجأة ودونما توقع، مخالفة كل ما كان يمكن أن يشير إليه الواقع أو ينبئ به. وهو ما نرى فيه تفسيرا علميا مقبولا لحالات التجمع الطارئ والتآزر المفاجئ التى أشرنا إليها، والتى تحدث وتتحرك بتأثير تلك القوة الغامضة الكامنة فى شعب أو فى مجتمع أو فى مجموعة من البشر، من بعد فرقة يكاد يُظَن معها أنه ليس لهم من تجمع أو لن يجمع بينهم أى اتفاق ممكن. وبعد أن يصل بهم التشرذم، وتدفعهم الفرقة ويقودهم الخلاف والاختلاف، إلى حالة متمكنة شبه مستقرة من «تشتت الحساسية» التى يمثلها انفراط عقدهم سياسيا وفنيا وأخلاقيا وسلوكيا، مثلما يعبر عنها تفتت أذواقهم وتشرذم ميولهم إلى درجة أنهم لا يجتمعون على الإعجاب بشاعر، مثلما لا تتفق أغلبيتهم على فنان، ولا يكادون يرون فى مثّال أو رسام أو أديب مجسدا لواقعهم أو متصورا لمستقبلهم أو معبرا عن أحلامهم وأمنياتهم، ناهيك عن افتقار حياتهم إلى «زعيم» يقتنعون معا -أو أغلبية- به حين يرون فيه القدوة، أو بطل ينشدون تحت رايته الخلاص. يرتبط كل ذلك «التشتت/التفتت/الضياع»، وبالضرورة، بنوع آخر وضيع من «التجمع المحدود» أو الالتفاف المتشرذم «التعويضى النسبى» حول شخصيات باهتة وذوات شاحبة، سواء من الفنانين أو الأدباء أو من السياسيين «المعارضين شكلا» من أشباه الزعامات أو المروّج لهم سوقيا وفرضا من السلطة المتحكمة المستبدة، أو عن طريق أدواتها ووسائلها فى الدعاية الموجهة الممولة لأغراض ليس منها الاحتياج الحقيقى إلى صنع «حالة توحّد فى الحساسية» تضرّ بها وتهدد -عن طريق الوعى- مستقبلها، مثلما تخلو من الرغبة الصادقة فى ترقية الذائقة الفنية وتنميتها وتطويرها، وتنأى عن السعى المخلص إلى تحقيق عملية تنمية بشرية غايتها اكتشاف القدرات وإعداد القيادات السياسية ذات الجدارة بإشراكها فى «إدارة الحاضر»، استعدادا لتسليمها دفة المستقبل بعد ثبوت قدراتها وتأكد خبراتها، كما يحدث فى برامج التربية والتدريب والتأهيل التى تمارسها الأحزاب الأوروبية والأمريكية فى الإعداد المنهجى الطويل لعناصرها الشابة؛ كى لا يفاجئها المستقبل دون أن تكون قد استعدت له بما يلزم من «كوادر» وقيادات (هل نتذكر إعداد تونى بلير الحزبى الطويل فى بريطانيا -بصرف النظر عن مواقفه منا أو مؤامراته علينا- حين اختير من بين مجموعة الصفوف الخلفية الBack benchers؟!). مقدمة طويلة نسبيا حملت فى طياتها إجابة على السؤال الهام حول سرّ أو لغز أيام الثورة الثمانية عشرة الطاهرة الجليلة «والمفاجئة» فى ميدان التحرير الرئيسى بالقاهرة، بل فى كل ميادين التحرير فى مصر، لكنها لم تجب بعد عن سرّ انكفائها وارتكاسها وانقلابها إلى الأسوأ الذى لم يكن متوقعا أو الذى كان متوقعا، لكنه لم يحدث ويحدث الآن كفعل «مؤجل» هادم، لا توجد ولن توجد إجابة له سوى فى الحديث عن «فريضة ثقافتنا الغائبة» التى ومضت فجأة فتجلّت، لكنها سرعان ما انطفأت وخبت مخلفة حرائق مستعرة وحرائق يراد لها أن تكون أشد استعارا.. (يتبع).