بقلم: مجدى أحمد حسين كان حكم المحكمة الإدارية العليا ببطلان عقد مدينتى كصاعقة فى سماء صافية, فقد كان إغلاق النائب العام للتحقيق مع إبراهيم سليمان وزير الإسكان السابق دون توجيه أى اتهام له إشارة على أن الدولة تتجه لإغلاق الموضوع. فى البلاد الأخرى التى يوجد بها قانون، فإن أحكام القضاء تطبق وكفى, أما فى بلاد الفساد فإنه يتم تشكيل لجان لإجهاض مضمون الأحكام القضائية التى لا تأتى على هوى الحكومة، بحيث تصبح وكأنها لم تكن. عندما يعم الفساد فإن القرار الصحيح هو إلغاء القضاء وجهاز المحاسبات وجهاز الرقابة الإدارية وأى جهات أخرى ممكن أن تسبب إزعاجا وارتباكا، لأن هذه الجهات تحاول أن تنفذ القانون، بينما الفساد له قوانينه الخاصة, ومن بين هذه القوانين إن كل حالة بحالتها، وكل صفقة لها قانونها الخاص، وإذا كان هناك قانون عام للفساد يجمع كل الصفقات، فهو المكاسب المشتركة للبائع (ممثل الدولة) والمشترى (رجل الأعمال)، نعنى المكاسب الشخصية لا المكاسب الاقتصادية المشروعة. ولكن أسعار الفساد ليست موحدة, فإذا كان المشترى من لجنة السياسات فله سعر غير سعر رجل أعمال ناشئ وهكذا. لذلك فإن أى حكم قضائى نزيه لابد أن يحدث ربكة اقتصادية، بل وانهيار اقتصادى، وخراب فى البورصة، فعندما يكون الاقتصاد كله (ولنتحدث هنا عن القطاع العقارى وهو أهم قطاع استثمارى فى ظل تراجع القطاعات الإنتاجية) قائم على قوانين الفساد، فإن محاولة إصلاح مشروع واحد (مدينتهم) تؤدى إلى خلل عام للتركيبة المستقرة, وهى كمحاولة إصلاح شقة بينما المبنى كله به خلل معمارى، فإصلاح شقة واحدة يؤدى إلى انهيار عاجل وسريع للمبنى، والذى يمكن أن يعيش بالخلل عدة سنوات. لذلك فإن الحكومة كانت على حق عندما اضطربت، وكذلك رجال الأعمال والمواطنون المستهلكون من صدور هذا الحكم. لأن هناك وقائع راسخة أصبحت موجودة على الأرض. مع ملاحظة أن الأزمة كلها دارت فى حدود الإسكان الترفى والفاخر، فلم يفكر مواطن غلبان واحد فى زيارة "مدينتهم" لأنه أصلا لا يملك أن يدفع أقساط إسكان مبارك!! ولاحظ أن الأزمة تهدد مشروعات ترفية مماثلة فى 6 أكتوبر. والتى تحاكى (بيفرلى هيلز مدينة الفنانين فى لوس أنجيلوس) وهذا يكشف حجم الأموال (عشرات المليارات) التى تنفق فى هذه المشروعات, ولا تزال تجد مشترين لها, وهذا معناه أن قطاع الأغنياء والطبقات الوسطى العليا لم تتشبع بعد, ولا يزال لديها صرر من الأموال تفضل كنزها فى صورة عقارات, لأن معدل زيادة أسعار العقارات أكبر من معدل فوائد البنوك الذى هبط الآن إلى 7% تقريبا، ولكن تظل النقطة الأكثر خطورة هى التى بدأنا بها، فهذا الحكم كاشف لحجم الفساد الذى سيطر على اقتصاد البلاد. فالوزير السابق إبراهيم سليمان كانت سياسته قائمة على الأمر المباشر، وهو ما يتعارض بصراحة مع قانون المناقصات والمزايدات. وبالتالى فإن قرارات الأمر المباشر شملت عشرات المشروعات ومساحات هائلة من الأراضى. وبالتالى فقد أصبحت التركيبة كلها خطأ، وتطبيق حكم المحكمة بشكل حقيقى يؤدى إلى سقوط نظام الحكم، وفى المقابل فإن النظام يريد أن يبطل حكم القضاء نهائيا، فيبرئ كل الأطراف تحت شعار أنه خطأ إدارى، بينما حيثيات الحكم تشير إلى ريبة وغموض وسوء نية وراء عقد مدينتهم، وهكذا فإن كهنة النظام برئاسة رئيسهم انعقدوا ليعيدوا صياغة حيثيات الحكم وكأنهم محكمة نقض أو محكمة دستورية!! فهم يريدون تبرئة إبراهيم سليمان، وطلعت مصطفى وتثبيت كل شىء على ما هو عليه بالنسبة لأوضاع المستهلكين وكأن شيئا لم يحدث. ويمكن أن نضع طائرات ورق بحيثيات الحكم ليلعب بها الأطفال. لا.. إنهم أذكى من ذلك، سيقولون يدفع طلعت مصطفى تعويضا بثمن الأرض بالتقسيط المريح, وهى نفس طريقة التفكير فى تنظيم الانتفاع بأراضى الدولة بعد أن تم توزيعها بالفعل فى طريق مصر الإسكندرية، وتم استغلالها بشكل معين منذ سنوات طويلة. وهى نفس طريقة إعادة الجبلى للأموال التى صرفتها الدولة على علاج زوجته واتجاه آخرين لنفس الإجراء، وهذا تسفيه لفكرة القانون، فاللص إذا ضبط يقوم بإرجاع المسروقات فورا أو بالتقسيط، وصاحب بيت الدعارة يعيد الأموال للزبائن، ولكن من يعيد الشرف للعاملات لديه؟! ولماذا لم يعد وزير الصحة ثمن الصفقات التى حصلت عليها دار الفؤاد (مستشفاه الخاص) ومعامله الخاصة من وزارة الصحة؟! وقد طلب مبارك من الكهنة إعداد ضوابط للانتفاع بأراضى الدولة (خاصة طريق مصر الإسكندرية الصحراوى) ولكن أحدا لم يرد عليه، ولن يرد عليه، لأن كل صفقة كان لها قانونها الخاص، ووضع أى قاعدة من أى نوع سيؤدى إلى تدمير أناس مهمين قد يكونون فى لجنة السياسات، وقد يكونون (رئيس الوزراء نفسه!) وقد يكونون من أصحاب الحيثيات من المصريين أو العرب أو الفنانين أو لاعبى الكرة. فى مدينتهم صدر حكم قضائى نهائى، ومع ذلك فلا سبيل أمامهم سوى قتل هذا الحكم القضائى وتشييعه إلى مثواه الأخير، لأن البديل انهيار اقتصادى وسياسى. فالاستقرار له معنى واحد فى هذا العهد: الاستقرار على الفساد وقوانينه حتى النفس الأخير!