تعانى زارعة القطن المصرى منذ سنوات طويلة، بسبب تدهور الصناعة المحلية، وانخفاض أسعار المحصول عالميا، مع ارتفاع تكلفته الإنتاجية، ومع ذلك ظل الدعم الذى تقدمه الدولة لهؤلاء المزارعين هو السند الوحيد الذى حافظ على استمرارية زراعة هذا المحصول رغم المعاناة. بجانب ذلك جاء قرار وزير الزراعة، عادل البلتاجى بإلغاء الدعم ليمثل صدمة، لمزارعى القطن، لأنه يقضى، بحسب قولهم، على آخر الخيوط التى تربط المزارع ب«الذهب الأبيض». مزارعو القطن بدأت معاناتهم منذ التسعينيات، عندما تدهورت الصناعة الوطنية للغزل والنسيج، وتم بيع نصف شركاتها، مما أدى إلى دخول القطاع الخاص ليسيطر على 50% من السوق المحلية. ففى عام 2010 عندما ارتفع سعر القطن فى الأسواق العالمية، مارس أصحاب شركات صناعة الغزل والنسيج ضغوطا على الدولة لمنع تصدير القطن المصرى، وفى العام التالى مارسوا ضغوطا مماثلة لكن هذه المرة لفتح باب الاستيراد نتيجة لانخفاض سعره، معللين مطلبهم بأن القطن المصرى لا يناسب الماكينات المحلية، وهو يراه رئيس معهد بحوث القطن، محمد عبد الحكيم: «قول حق يٌراد به باطل». وأضاف عبدالحكيم أن القطن المصرى هو الوحيد الذى يعمل على مستوى سُمك 300 للخيط، وهى خيوط تشبه الحرير، لكن لا يعنى ذلك أنه لا يمكن صناعته على ماكينات بسمك أكبر مثل سمك 60 وهى الماكينات الشائعة فى المصانع المصرية. ووسط لعبة «عض الأصابع بين الحكومة وشركات القطاع الخاص للغزل والنسيج»، بحسب خبراء، يظل المزارع هو الخاسر الأكبر، حيث إن غلق باب التصدير فى حالة ارتفاع الأسعار يحرمه من تحقيق ربح لمنتج بذل فيه كثيرا من الوقت والجهد والمال، خاصة مع الارتفاع الدائم والمتواصل للتكلفة من أسمدة وعمالة. وتنتج مصر سنويا نحو 4 ملايين قنطار من القطن طويل وفائق الطول، فى حين تستهلك المغازل المحلية من القطاعين العام والخاص نحو 4.5 مليون طن، وتصدر بين 1 و1.5 مليون طن، وتغطى النسبة الباقية اضافة الى الكميات المستوردة احتياجات الصناعة. وفى المقابل فإن الاستيراد فى وقت الانخفاض العالمى للسعر يمنح التجار والصناع أداة للضغط على الفلاح، وشراء القطن بأقل الأسعار حتى أن سعر الطن قد يصل الى اقل من تكلفة انتاجه، وهو ما حدث فى الموسم الأخير، مما دفع عددا من المزارعين للتهديد بعدم زراعته. «الدعم يحقق توازنا لسعر القطن وبدونه سيكون الفلاح خاسرا وستتأثر زراعة وصناعة القطن سلبا بشدة»، بحسب مصدر حكومى فى وزارة الاستثمار فضل عدم ذكر اسمه، وقال إن الشركات المحلية المملوكة للدولة تعتمد بشكل رئيسى على الاقطان المصرية. وسبق للدولة أن قدمت دعما لقنطار القطن للمزارع فى الموسم الأخير بنحو 200 جنيه للقنطار، وفى الموسم الذى سبقه حصلت شركات الغزل المملوكة للدولة على الدعم بواقع 350 جنيها للقنطار لتتمكن من شراء القطن من الفلاحين. وقال أحمد مصطفى، رئيس الشركة القابضة للغزل والنسيج، إن حصول الفلاح على الدعم افضل من الشركات، لأنه يمكّنهم من مواجهة ضغوط التجار لشراء المحصول بسعر اقل، وفى نفس الوقت ستستفيد الشركات بتوفر القطن. «إنه قرار مفاجئ وغريب»، أضاف مصدر وزارة الاستثمار، مشيرا إلى أن جهات حكومية عديدة شاركت فى مؤتمر لبحث سبل انقاذ صناعة الغزل والنسيج قبل اسبوعين، وكان أولى التوصيات التى صدرت عن المؤتمر، هو أن تقوم وزارة الزراعة بوضع سياسة ثابتة لزراعة القطن، تحدد المساحة والسعر التى ستقوم بشراء القطن به، ويعنى هذا القرار أن الفلاح لن يزرع قطنا مرة اخرى. وتعانى معظم شركات الدولة ويصل عددها الى 32 شركة من توقف انتاجها بشكل كامل او جزئى، وتعد شركتا غزل المحلة والعامرية الأكثر شهرة فى هذا المجال، وشهدت الأولى كثيرا من الاضطرابات بسبب اعتصامات واضرابات للعمال لسوء ظروف العمل. واعلنت الحكومات المتعاقبة فى السنوات الأخيرة عن مساعٍ لإصلاحها، ووضع مجلس الوزراء خطة لإعادة هيكلة تلك الشركات قبل 3 سنوات بتكلفة تصل الى 5 مليارات جنيه، لكن نظرا لعدم تنفيذ الخطة بعد وقت قصير، حيث ظلت حبيسة الأدراج لمدة عامين، تقرر الغاؤها بسبب اختلاف سعر صرف العملة المحلية مقابل الدولار، واسعار ادوات الإنتاج خلال هذه الفترة، كما طرحت الشركة القابضة للغزل والنسيج فى نوفمبر الماضى مناقصة عالمية، لإعداد دراسة جديدة لإعادة هيكلة نحو 25 شركة من بين ال 32 شركة التابعة لها، ومن المنتظر الإعلان عن العرض الفائز من بين نحو 16 عرضا من بينهم 7 عروض من مؤسسات عالمية فى منتصف الشهر الجارى. وكان وزير الاستثمار، اشرف سالمان، قال فى مؤتمر صحفى مؤخرا ل«الشروق»، ردا على تساؤل عن إمكانيات طرح مشروع إعادة هيكلة شركات الغزل والنسيج الحكومية فى مؤتمر قمة مصر الاقتصادى، المقرر عقده فى مارس القادم، للحصول على تمويل من مستثمرين مشاركين، قائلا إن أزمة هذه الشركات متشعبة ومتشابكة وترتبط بحلقات عديدة، بداية من زراعة القطن وحتى صناعة الملابس. يرى رئيس معهد بحوث القطن، أن مشاكل القطن المصرى، كانت نتيجة ازمة شركات الدولة، عندما بدأ أداء هذه الشركات فى التراجع المتواصل فى تسعينيات القرن الماضى، وهو ما منح مبررا لرئيس الوزراء الأسبق عاطف عبيد، ببيع نصف هذه الشركات لتوفير تمويل لإصلاح الباقى، وكانت النتيجة انه تم التخلص من الشركات ولم تقم الدولة بإعادة هيكلة الشركات الباقية، والأهم من ذلك القضاء على المصدر الرئيسى لتسويق القطن المصرى، وأصبح للشركات الخاصة دور كبير فى السوق والضغط على الحكومات المتعاقبة للاستيراد، ومنافسة القطن المحلى، وأدى ذلك إلى انخفاض إنتاجه بشكل حاد، وكان يدور حول 6 ملايين قنطار فى 1997، ووصل العام الماضى إلى أقل من 3 ملايين قنطار، كما تقلصت مساحة الأرض المنزرعة به بشكل حاد. وأضاف رئيس معهد بحوث القطن، أنه اذا كانت كل دول العالم تقدم دعما سخيا الى مزارعى القطن لديها، فإنه من الأولى بمصر أن تفعل ذلك، لان القطن المصرى يعتبر الأجود على مستوى العالم، وتستورده الدول المختلفة، لإنتاج غزول ومنسوجات وملابس بأسعار مرتفعة جدا، أو لخلطه مع انتاجها من القطن، لتحسين مواصفاته، وتروج هذه المنتجات على اساس ميزة اساسية فيها وهى أنها مصنعة من القطن المصرى. وتابع: «الوزارة تكتب شهادة وفاة القطن المصرى، والسماح بذلك سيجعل الدولة تبكى دما فيما بعد»، مشيرا إلى أن الحفاظ على القطن وتميزه يتطلب زراعته سنويا. وأضاف، أن محمد على باشا ادخل القطن مصر فى القرن الثامن عشر، واحتل مكانته المتميزة على مدار قرون، ثم جاءت الدولة لتقضى عليه الآن. ويرى عبدالحكيم أن انقاذ القطن المصرى يجب أن يكون عن طريق منع تصديره، وتصنيعه بالكامل فى السوق المحلية، مما يرفع القيمة المضافة، «فإذا كان سعر القنطار سيصل الى 500 جنيه، سيرتفع الى 1500 جنيه عند تصنيعه غزول، و3000 جنيه اذا كان منسوجات»، وفى هذه الحالة لن تضطر الدولة لدعم الفلاح، لأنه سيحصل على سعر يغطى التكلفة ويحقق فائض أرباح. واقترحت أطراف أخرى لعلاج الأزمة منع استيراد أى اقطان قبل استهلاك القطن المحلى، لكن اشار الى أن «مصر ستنتهك القانون الدولى عند اتخاذ هذا الاجراء، كونها عضوا فى منظمة التجارة الدولية»، والأهم من ذلك أن الدول التى تستورد منها مصر الغزول، تمنع استيراد سلعا اخرى من مصر، مثلما فعلت اليونان مع محصول البطاطس المصرى قبل عدة سنوات.