منذ عقود طويلة من الزمن وهذه الأمة الكريمة قد ابتليت بموجات متتابعة من أشكال الاستعمار الأجنبي القذر, منه ما هو عسكري وآخر سياسي واقتصادي وثقافي , وبالطبع فإن جميع أشكال ذلك الاستعمار قد تغلغل إليها كنتيجة طبيعية لتراجع وضعف دورها الحضاري والقيادي الكوني , والذي بدوره قد تسبب بانهيار متتال ومتواصل لمختلف قطاعات الحياة الرئيسية فيها , بداية من ضعف الإرادة السياسية والتبعية للغرب في اتخاذ الكثير من القرارات المصيرية الخاصة بها , إلى تراجع القوة العسكرية والحربية الصناعية واعتمادها على الدول الأجنبية في توفير المعدات والآلات العسكرية وقطع غيارها , ومرورا بمنظومة الاقتصاد المدني التي أصبحت تعتمد بشكل شبه كلي على الصناعات الغربية في توفير حاجات الفرد ومتطلباته السلعية اليومية , وليس انتهاء بالاستعمار العقائدي والثقافي والفكري الخطير للغاية , والذي بات ينخر كالسوس في كثير من العقول التي تعول عليها الأمة أمر نهضتها وعزتها , والتي داست - وللأسف الشديد - على فكرة الانتماء الحضاري للأمة وعقيدتها ككل , ولنبضها العربي على وجه الخصوص , فأثر ذلك كثيرا في توجهاتهم الثقافية والفكرية الإسلامية والعربية القومية , نحو فكر موجه ومتهم باتباع فكر مهزوز متهافت واستعماري. ومن وجهة نظري الشخصية - فان الأخير منها - أي - الاستعمار العقائدي والثقافي والفكري , هو أخطرها وأقذرها على الإطلاق , بل وأشدها فتكا بهذه الأمة العظيمة ومقدراتها وخيراتها وثرواتها البشرية والطبيعية , كونه يستعبد العقول والنفوس فيدفعها إلى الاتجاه الخاطئ في الحياة والبناء , وثانيا كونه - أي - الاستعمار العقائدي والثقافي والفكري , كان ولازال وسيظل معول الهدم الرئيسي , لمختلف تلك القطاعات الحياتية التنموية الأخرى لأي امة في التاريخ , فالعقول المستعبدة أصلا لأيادي الاستعمار وأعوانه , هي أحوج ما تكون لتحرير نفسها منه , فكيف بها ان تقدر وتستطيع تحرير غيرها من عبوديته وقيوده وأغلاله؟. فالاستعمار يدرك تمام الإدراك , بأنه إذا ما نجح بتدمير عقيدة المسلم وثقافته الدينية وأخلاقه وثوابته وقيمه الفاضلة , فإن ما دون ذلك من البناء الحضاري والتنموي سينهار تلقائيا , فكيف به إذا ما نحج بتدمير عقيدة وعقل الصفوة من أبناء مجتمع الفكر الإسلامي والعربي ؟ من كتاب وأدباء ومثقفين ومفكرين وغيرهم , والذين تعتمد عليهم الأمة في الدفاع عنها , وعن عقيدتها وبناءها وكل جوانب الحياة فيها , فهم بالنسبة لها بمثابة القلب النابض , والرئة التي تتنفس بها الهواء النقي , فكيف إذا توقف القلب عن النبض ؟ ولم تعد الرئة تتنفس غير الهواء الملوث ؟ فليس بعد ذلك إلا موت ذلك الجسد وانهياره. إننا اليوم .. نعيش ونعايش عودة أحد أخطر أشكال ذلك الاستعمار الثقافي , والذي يدب في الخفاء خلف الظلال المتحركة في عقول أصحاب الأقلام ومحرري الشعوب ومحركيها الى الحق والنور " كما يفترض بهم " , دفع بها الغرب الاستعماري الحاقد تحت مسميات ومصطلحات منمقة كثيرة وغريبة , الى كيان هذه الأمة وقلبها العربي النابض , كنا قد تصورنا بأنها - أي - هذه الأقلام الارتزاقية المأجورة الخائنة , قد وعت وانتبهت لذلك المخطط الاستعماري الفكري والثقافي الأجنبي , والذي طالما سعى بكل وسائله وأساليبه السياسية والفكرية الى جذبها إليه , كما تجذب الجيفة المتعفنة الذباب والطفيليات إليها , فكانوا - وللأسف الشديد - من جهة , أبواق لذلك الاستعمار الثقافي في هذه الأمة , وتحديدا في قلبها العربي العزيز , أما من جهة أخرى , فلم يكونوا كما يفترض بهم إنسانيا وفكريا , شموع تحترق لتضئ للآخرين طريقهم , بل حرموا أنفسهم من شرف ذلك , ليكونوا مجرد مرتزقة يتمنون كل صباح ( ان لا ينتهي الصراع العربي الإسرائيلي - على سبيل المثال لا الحصر - حتى لا يضطر الواحد منهم الى تسكير دكانه!). نعم .... نحن نعلم ان هناك العديد من العقبات والقيود التي يعاني منها المثقف والمفكر والأديب في كل أنحاء العالم , وليس عالمنا العربي بالطبع بمنأى عنها , دفعت ببعضه في كثير من الأحيان إلى الهجرة والفرار بجلده خارج وطنه , او البقاء فيه في كثير من الأحيان مرغما كمرتزق خائن وعميل للاستعمار وأعوانه , وهي حقيقة لابد ان تعترف وتقر بها الحكومات العربية ، إذا ما أردنا ان نصل إلى شاطئ الأمان بأمن هذه الأمة وأوطانها ومجتمعاتها ثقافيا وسياسيا واجتماعيا , وكما عبر عن ذلك سارتر في دفاعه عن المثقفين وفي تعريفه لهم , باعتبار المثقف نتاجا تاريخيا لامته ووطنه ومجتمعه , وهكذا فانه لا يحق لأي مجتمع ( ان يتذمر ويشتكي من مثقفيه ,- وكتابه ومفكريه وأدبائه - من دون ان يضع نفسه في قفص الاتهام , لان مثقفي هذا المجتمع , ما هم إلا صنعه ونتاجه ) الطبيعي والتاريخي. ولكن ذلك بالطبع لا يعطي مثقفي هذه الأمة بشكل عام , والعرب منهم تحديدا , الحق أو الضوء الأخضر في مهاجمة أوضاعها المتردية بطريقة هي أكثر اعوجاجا وترديا , وذلك بالتعاون مع أيادي الاستعمار وأعوانه في كل أنحاء العالم , فإذا كنا غير قادرين - ككتاب وأدباء ومثقفين ومفكرين - بطريقة ما على مواجهة الاستعمار الثقافي ومحاربته وكسر شوكته والقضاء عليه في هذه الأمة ككل , وفي كيانها العربي تحديدا , فعلينا ألاَ نقبل يده , او نجعل أنفسنا له شماعة يتعلق بها , او بوق ينفث من خلاله سمومه في جسد هذه الأمة الغالية , وكما أننا لا ندعو للدفاع عن الأنظمة او الحكومات والزعماء , فكذلك لا يجب أن نكون قفازا ليد الاستعمار القذرة , وذلك من خلال السعي إلى محاربتها بأساليب فوضوية وغير بناءة , جل هدفها نشر الفتن والنعرات الطائفية والمذهبية والشعوبية , وغيرها من وسائل التدمير والتخريب وزعزعة الاستقرار والأمن. لذا فإن مجتمع الفكر الثقافي والعربي اليوم , كونهم الركيزة والأساس الذي يصنع الأمن الثقافي القومي لهذه الأمة وقلبها العربي النابض , مطالب بوقفة استدراك وتأمل في الكثير من الاتجاهات الفكرية والثقافية التي يشجع عليها ويسعى لتحريرها , وخصوصا تلك التي دفعت بنا في كثير من الأحيان إلى أحضان الغرب والاستعمار الثقافي الأجنبي , فلا حرية لهذه الأمة وجزء من كيانها مستعمر للغرب ثقافيا , - وأي كيان ذلك - انه القلب النابض لها , وكما قال المفكر سيد قطب بان : ( ارض العرب كلها جزء من ارض الإسلام , فإذا نحن حررنا الأرض العربية , فإننا نكون قد حررنا بضعة من جسم الوطن الإسلامي , نستعين بها على تحرير سائر الجسد الواحد الكبير ) , فإذا عجزنا في يوم من الأيام على ان نصنع لأمتنا أولا , ولأنفسنا ثانيا منظومة أممية سياسية قوية ومستقلة , تملك قرارها ومصيرها وإرادتها السياسية بشكل كامل , فلا يجب علينا ان نعجز - نحن المثقفين كما ندعي - ان نتكتل فكريا في كيان ثقافي أممي وحضاري خاص بأمتنا , ننطلق من خلاله نحو فجر جديد من الحرية والعدالة والمساواة في مختلف قطاعات الحياة وميادينها , ونكون من خلاله يدا ضاربة تواجه الاستعمار وتحمي هذه الأمة وشبابها من الوقوع في براثنه وفخاخه , فإذا عجزنا كذلك عن تحقيق ذلك , فلا يجب علينا أن نكون الأفواه والأصوات التي تسبح بحمده ليل نهار , وتقبل يده في بلاد المسلمين والعرب وخارجها.