في كلمة ألقاها بمجلس لندن الإسلامي، فتح اللورد القاضي فيليبس، القاضي الأعلي في مؤسسة القضاء البريطانية، النقاش من جديد حول موقع قوانين الشريعة الإسلامية في بريطانيا. ما قاله القاضي فيليبس يمكن تلخيصه بالتالي: أن هناك سوء فهم واسعا في بريطانيا فيما يتعلق بقوانين الشريعة؛ أنه شخصياً لا يري مانعاً في إعمال القوانين الإسلامية، أو أي قانون ديني آخر، علي مستوي حل النزاعات والتحكيم، علي أن تكون العقوبات التي يمكن تطبيقها علي من يرفض الانصياع لنتائج التحكيم مستمدة من قوانين البلاد؛ وأن قيام أنظمة بنكية مستمدة من القوانين الإسلامية هو نشاط مالي مقر ومزدهر في بريطانيا. هذه هي المرة الثانية خلال هذا العام التي تشهد إدلاء شخصية بريطانية عامة كبيرة بدلوها في الجدل حول قوانين الشريعة. في شباط/فبراير الماضي، قال روان ويليامز، كبير أساقفة الكنيسة الأنجليكانية، أن جذور الشريعة تستمد من السعي إلي إعمال إرادة الله في الشأن القانوني العادي . ولم يستبعد كبير الأساقفة أن يجري اللجوء إلي قوانين الشريعة (يقصد بعضها، بالطبع) في بريطانيا في المستقبل. لم يكن تصريح كبير الأساقفة محدداً، مما جعله عرضة لهجمات عنيفة من جهات متعددة، واضطره بالتالي إلي التراجع ومحاولة التوضيح. قبل يوم واحد من إلقاء كبير القضاة البريطانيين كلمته، كانت المحكمة الدستورية التركية قد بدأت جلساتها للاستماع إلي مرافعات الادعاء والدفاع في القضية التي تقدم بها المدعي التمييزي لحل حزب العدالة والتنمية ومنع سبعين من قياداته من العمل الحزبي المنظم. وبالرغم من أن ثمة شواهد لا تحصي علي أن قضية حل العدالة والتنمية هي قضية سياسية في جوهرها، فإن من الصعب إغفال المسوغات التي يضمها ملف الادعاء، حتي مع اعتبار هشاشة هذه المسوغات واحتمال أن تأخذ المحكمة الدستورية بها بالفعل، نظراً لأن المحكمة هي مؤسسة مسيسة أيضاً. القضية التي تكاد تطيح باستقرار تركيا السياسي والاقتصادي، وتدخلها في دوامة جديدة من تاريخها الحديث بالغ الاضطراب، تتعلق أيضاً بدور الإسلام وموقعه في الحياة العامة، وما إن كان الحزب الحاكم يمس بالأسس العلمانية الصارمة للجمهورية، ويعمل علي أسلمة الشأن العام. في بريطانيا أقلية مسلمة، أخذت في التكون والنمو منذ الخمسينات من القرن الماضي. وبالرغم من وجود تقديرات مختلفة حول عدد المسلمين في بريطانيا (مليون ونصف المليون إلي مليونين)، فليس من المتيقن حجم هذه الأقلية. أغلب هؤلاء المسلمين من أبناء شبه القارة الهندية، ولكن نسبة المسلمين الآخرين، من عرب وأفارقة، تزايدت في شكل ملحوظ خلال عقدي الثمانينات والتسعينات. جاء المسلمون إلي بريطانيا في البداية كأيد عاملة، بتشجيع من حكومات ما بعد الحرب الثانية؛ ولكن قطاعات منهم ارتقت تدريجياً إلي شرائح الطبقة الوسطي، بقوة التعليم والتفاني في العمل. هذا، علي أية حال، لم يحل مشكلة الإسلام في بريطانيا. فبالرغم من تقاليد الهجرة الليبرالية للجزر البريطانية، وأن بريطانيا، بخلاف الشائع، لا تتشكل من إنكليز واسكتلنديين وويلزيين وأيرلنديين وحسب، بل ومن أعداد متفاوتة من أبناء الأعراق الأخري، بمن في ذلك اليهود والبولنديون والاسكندنافيون، فإن قبول بريطانيا للجالية المسلمة (التي تتكون هي أيضاً من أعراق مختلفة) ليس شأناً سلسا. ثمة أسباب عديدة تقف خلف المسألة الإسلامية في بريطانيا، بعضها يعود إلي تقاليد وثقافة الاجتماع البريطاني وبعضها الآخر يتعلق بثقافة وتقاليد المسلمين أنفسهم. ولكن، مهما كان الأمر، فليس من شك في أن المسألة الإسلامية لم تبدأ في البروز علي نحو ملموس إلا عند انفجار الأزمة المتعلقة بكتاب سلمان رشدي الآيات الشيطانية ، وما صاحبها من ردود فعل إسلامية غاضبة، داخل بريطانيا وخارجها. خطاب أنهار الدماء الشهير الذي ألقاه السياسي البريطاني الكبير، وأحد أبرز مفكري اليمين السياسي، إينوك باول، في الستينات، منذراً بحرب دموية إن استمرت سياسة الهجرة البريطانية علي ما هي عليه، لم يكن بالضرورة مؤشراً علي وجود تيار عام مناهض للإسلام والمسلمين. بيد أن أزمة كتاب رشدي لم تكن تطوراً مفاجئاً، بل اندلعت علي خلفية من حركة إحياء إسلامي واسعة النطاق، كان لابد أن تصل أصداؤها أخيراً إلي الأقليات المسلمة في أوروبا الغربية. وقد بدا لعدة سنوات بعد أزمة رشدي أن بريطانيا لم تكن تدري تماماً كيف يمكنها التعامل مع المسألة الإسلامية، سواء فيما يتعلق بالعلاقة مع الأقلية المسلمة، أو فيما يتعلق بتصور الأكثرية لهذه الأقلية. منذ نهاية الحرب الباردة، وبدفع من دوائر سياسية وثقافية معينة، أخذت فكرة الخطر الإسلامي البديل للخطر الشيوعي، بالرغم من سذاجتها وعدم ارتكازها إلي أية أسس حقيقية، في اكتساب أنصار لها في الأوساط الإعلامية والسياسية؛ وهو ما زاد الطين بلة. جاء التحول الحقيقي في هذا المناخ بفوز حزب العمال في انتخابات 1997، واتباع حكومة بلير سياسة تستند ضمناً إلي مفهوم التعددية الثقافية . شجع المسلمون علي تأسيس منظمة تمثلهم، فتحت أبواب رئاسة الوزراء لشخصياتهم العامة، وقام رئيس الوزراء بعدد من المبادرات الرمزية ذات الدلالة تجاههم، بما في ذلك القيام بزيارة غير مسبوقة لمسجد لندن المركزي. ولأن بريطانيا العمالية أرادت أن تكون أكثر أوروبية، ولأن الشعب البريطاني كان يأمل بالفعل بعهد مختلف عن الحقبة المحافظة الطويلة، ولأن حكومة بلير أطلقت حالة من الرفاه والنمو الاقتصاديين، فقد سيطر علي بريطانيا مزاج من السلام مع النفس والرضي، انسحب أيضاً علي وضع المسلمين. ولكن فترة الازدهار الإسلامي سرعان ما انقضت، فمن أحداث سبتمبر/ أيلول 2001، إلي غزو العراق في 2003، وصولاً إلي تفجيرات لندن في 2005، تصاعدت مشاعر العداء للإسلام والمسلمين كما لم تتصاعد من قبل. من جهة أخري، سيطرت علي أغلب المسلمين قناعة بأن حكومة بلير تخدعهم بالكلام المعسول، بينما هي تسن قوانين مقيدة للحريات، لا يقصد بها سواهم، وتخوض حرباً مدمرة لبلد وشعب مسلم، يعارضها العالم بأسره. خلال الثمانينات، كانت المسألة الإسلامية في بريطانيا حقيقة، ولكنها حقيقة مصطنعة إلي حد كبير؛ منذ غزو العراق وتفجيرات لندن أصبحت واقعاً ملحاً. ومن هنا تأتي الدلالة الهامة لتصريحات كبير الأساقفة والقاضي الأعلي. قد لا ينجم عن توقعات روان ويليامز أي تطور ملموس بشأن موقع الإسلام في البنية القانونية البريطانية؛ وربما لن تضيف تصريحات لورد فيليبس الكثير لما هو واقع الآن، حيث تلجأ الأسر المسلمة منذ سنوات للهيئات الإسلامية المتعددة، المنتشرة في طول بريطانيا وعرضها، والتي تعالج قضايا الزواج والطلاق والإرث لمن يرغب في ذلك. وليس ثمة شك في أن الاثنين قد أثارا من المعارضة أكثر مما أثارا من التأييد في الأوساط البريطانية غير الإسلامية. ولكن أحداً لا يمكنه إغفال البعد العقلاني، البراغماتي البريطاني الخاص في الجدل الدائر منذ شهور حول وضع المسلمين البريطانيين وما يتعلق بخصوصيتهم الدينية. بالرغم من ارتفاع حدة المشاعر، أجواء التحريض، والخوف وقوي التخويف علي السواء، لم يزل هناك ما يكفي من العقل لمعالجة هذا الموضوع الشائك، الذي لم يعرف لا تاريخ بريطانيا ولا التاريخ الإسلامي الطويل سابقة مثيلة له يمكن أن يقاس عليها؛ في حين يلعب القياس دوراً هاماً في تشكيل العقل القانوني للطرفين. وهذه علي الأرجح هي المسألة الغائبة حتي الآن عن تفكير مسلمي بريطانيا (والغرب الأوروبي، في شكل عام)، حتي في ردود فعلهم الإيجابية علي تصريحات كبير الأساقفة والقاضي الأعلي. الأقليات المسلمة تعيش وضعاً غير مسبوق، ليس فقط باعتبارها أقليات دائمة في مجتمعات غير إسلامية، ولكن أيضاً باعتبارها أقليات في مجتمعات تحكمها دول مركزية حديثة، ذات بنية قانونية وتعليمية وتشريعية واحدة، دول ذات سيادة، ودول تعتبر نفسها مصدر الشرعية، وتتوقع من مواطنيها الخضوع لهذه السيادة. وفي التعامل مع وضع غير مسبوق، يمكن بالطبع الاستعانة بمصادر الميراث الإسلامي الفقهي، ولكن الحل (أو الحلول) في النهاية سيكون بطبيعته غير مسبوق. في أنقرة، يترتب علينا الانتظار قليلاً قبل أن نري ما إن كان قضاة المحكمة الدستورية يحتفظون ببعض من العقلانية والبراغماتية وسط أجواء الجنون التي تكاد تعصف بالحياة السياسية التركية. ولكن إن أخذ قرار المحكمة السابق حول التعديل الدستوري الخاص بالتعليم العالي (أو قضية الحجاب، كما هي معروفة) في الحسبان، فربما ليس هناك الكثير مما يدعو إلي التفاؤل. في قضية الحجاب، أصدرت المحكمة قرارها بأكثرية تسعة إلي اثنين ضد التعديل الدستوري؛ بمعني أن القاضيين اللذين اعتبرا التعديل دستورياً كانا أولئك اللذين عينا في عهد الرئيس المعتدل أوزال، بينما صوت العلمانيون العتاة جميعهم ضد التعديل. والحقيقة أن الطبيعة السياسية للمحكمة الدستورية ليست محل خلاف كبير بين الأتراك، بحيث يراها حتي أولئك الذين يختلفون مع حزب العدالة والتنمية وحكومته باعتبارها مؤسسة أخري من مؤسسات ما يعرف في تركيا ب الحكومة العميقة ، أي مراكز التأثير والسلطة التي لا تري في مواقع القرار ولا تقف موضع المساءلة، بالرغم من أنها الصانع الحقيقي للقرار. في مثل هذا الوضع، تقف تركيا أمام أحد احتمالين: صفقة بين مراكز القرار والنفوذ تخرج البلاد من الأزمة، أو عودة إلي حالة عدم الاستقرار المزمنة التي صبغت الحياة التركية بصبغتها طول زهاء نصف القرن. في كل مكان يتواجد فيه المسلمون، لن يتوقف الجدل حول دور الإسلام وموقعه. وهو جدل يتعلق بالشأن السياسي العام للأمم، وليس جدلاً دينياً كما يعتقد بعض المسلمين وبعض خصومهم. وفي الشأن السياسي العام، أعمل المسلمون في أغلب حقبات تاريخهم أداة المصلحة، بكل ما توحي به من عقلانية وبراغماتية. عندما يتحول الشأن السياسي إلي ثقافي أو عقدي، كما تفعل الطبقة العلمانية التقليدية في تركيا، وكما تعتقد بعض القوي الإسلامية السياسية، يصبح الحل مستحيلاً.