* د. الدرديري: ما حدث لن يتكرر ولن يفلت من العقاب أولئك الذين قتلوالصغاروسحلوا الكباروأقاموا المذابح * المصريون الذين ينكل بهم نظام عسكرى يتلقى تسليحه ودعمه من الغرب يطالبون المجتمع الدولى بدعم نضالهم فى استعادة الديمقراطية * تدمير وتشريد شعوب بأسرها لم يكن عدوانا على فئات محددة بعينها بل على البشرية بأسرها (أفغانستان - غوانتانامو- العراق - فلسطين) تلك بعض الأماكن التى حاولت القوى المهيمنة فى العالم تحويلها إلى مواقع استثنائية لا يطبق فيها القانون الدولى وترتكب فيها الجرائم ضد الإنسانية بعيدا عن المساءلة والمحاسبة. وقد انضمت مصر إلى تلك القائمة من الأماكن فى الصيف الماضى. وكما هى الحالة فى جميع هذه المناطق، يقاوم الناس فى مصر، وبقوة، كل الجهود المبذولة لحرمانهم من حقوقهم الأساسية. جرائم العسكر وقد عقدت مجموعة من المحامين الدوليين مؤتمرا صحفيا للكشف عن نتائج أولية توصلت إليها فى معرض تحقيقها فى الجرائم التى ارتكبها العسكر فى مصر ضد الإنسانية منذ وقوع الانقلاب العسكرى فى الثالث من يوليو والذى أطاح بأول رئيس وأول برلمان منتخب ديمقراطيا فى مصر. وقد كلف هذا الفريق من المحامين المرموقين بمهتمه من قبل حزب الحرية والعدالة فى مصر و بعض أعضاء البرلمان المطاح به فى البلاد. يترأس الفريق المحامى «طيب على» أحد الشركاء فى مؤسسة «آى تى إن» المتخصصة فى الترافع أمام القضاء البريطانى فى قضايا حقوق الإنسان، ويتكون الفريق من بعض أبرز القانونيين فى العالم ومنهم المدير السابق لدائرة الادعاء العام فى بريطانيا اللورد «كين مكدونالد»، والمحامى الدولى الجنوب إفريقى والمقرر الخاص للأممم المتحدة لحقوق الإنسان البرفسور «جون دوجارد»، ومحامى حقوق الإنسان ذائع الصيت «مايكيل مانسفيلد». مشاركة أعضاء البرلمان فى أثناء المؤتمر الصحفى، انضم كل من «طيب على» و«مايكل مانسفيلد» إلى الدكتور «عبد الموجود درديرى»، أحد أعضاء البرلمان المصرى المعلق، والبرفسور «ريتشارد فولك»، القانونى البارز والمقرر الخاص للأمم المتحدة بشأن وضع حقوق الإنسان فى فلسطين، لمناقشة النتائج الأولية لتقريرهم ومناشدة المجتمع الدولى التصريح بهذه الجرائم وإعلان معارضته لها بشكل فعال. وقال المتحدثون إننا نشترك معا فى حمل هذا العبء التاريخى، وإن مستقبلنا المشترك، بما فى ذلك الحقوق التى نؤمن بها جميعا، تعتمد على مآلات الأمور فى مصر. منذ مأساة الحادى عشر من سبتمبر 2001 والعيون الغربية، خاصة عيون الأمريكان، مركزة على الشرق الأوسط فى محاولة لفهم لماذا حصلت الهجمات. مواقع استثنائية ولكن، وكما يشير الأكاديمى الأمريكى «ديريك جريجورى» فى كتابه (الحاضر الاستعمارى)، البحث عن الإجابة «هناك» بدلا من البحث عنها «هنا»، خلقت الولاياتالمتحدة وحلفاؤها الأوروبيون مواقع استثنائية، حيث ينساقون وراء منطق المشاريع الاستعمارية والاستشراقية فى تصور أن الحياة «هناك» تحكمها قيم أخلاقية ومبادئ قانونية مختلفة عن تلك التى تحكم الحياة «هنا». مثل هذه النظرة المنسوبة إلى ما بعد حقبة الاستعمار لا تكتفى بإعادة إنتاج التمايز بين البشر، بل تذهب أيضا بكل الإنجازات التى تحققت حتى الآن فى مجال حماية الحقوق الأساسية للإنسان فى حقبة ما بعد الاستعمار. النظرة الاستعمارية المعاصرة يقول «جريجورى» بأن «مثل هذا الخلل -المتمثل فى اعتبار تدبر «الآخر» امتيازا دونما اعتراف بما تراه فيه بالمقابل- هو الذى يسم هذه النظرة الاستعمارية المعاصرة». شهدت العيون الغربية مؤخرا انطلاق الانتفاضات العربية التى فجرها بشر عاديون من خلال مسيرات احتجاجية انسابت فى الشوارع والطرقات تطالب بشجاعة بإنهاء عقود من الدكتاتورية وتدشين مرحلة جديدة يسود فيها القانون وتمارس فيها الديمقراطية. الانتفاضات الثورية ولكن، وبينما أسرت الانتفاضات الثورية فى العالم العربى خيال الغربيين، لم يكن ذلك كاف لقطع الطريق على النظرة الاستعمارية والإطاحة بالتمايز المنشأ الذى تحدث عنه «جريجورى»، فقد التزم الغرب إلى حد بعيد الصمت منذ أن سحق انقلاب العسكر ديمقراطية مصر ومارسوا الإرهاب فى حق شعبها. والآن، يقول ضحايا الانقلاب الذين يناضلون من أجل استعادة الديمقراطية فى مصر بأنه آن الأوان لأن يقر المجتمع الدولى بحقيقة ما تراه عيناه؛ فالمصريون الذين ينكل بهم نظام عسكرى يتلقى تسليحه ودعمه من الأقطار الغربية يطالبون الآن المجتمع الدولى بأن يدعم بشكل فعال نضالهم فى سبيل استعادة الديمقراطية، وأن يساعدهم فى محاسبة نظام الانقلاب العسكرى على الجرائم التى ارتكبها ضد الإنسانية. سنحت الفرصة قبل انعقاد المؤتمر الصحفى أن تجرى مؤسسة «ميمو» حوارا شاملا حول الجهود المبذولة فى هذا المجال مع المحامى «مايكل مانسفيلد» الذى عمل لما يزيد على أربعة عقود فى قضايا ذات علاقة بالنضال فى سبيل الحقوق المدنية حول العالم، وكان مؤخرا أحد القضاة فى محكمة «راسيل» حول فلسطين. انقلاب عسكرى يغمر «مانسفيلد» الغضب من جراء ما يسميه «صمتنا الجماعى»، ويتساءل: «لماذا لا ينتبه أحد للنقطة التى حاول الرئيس محمد مرسى نفسه لفت نظرنا إليها، وهى أنه أطيح به من خلال انقلاب عسكرى». ويؤكد «مانسفيلد» أن مقاضاة مرتكبى الانقلاب فى مصر أمر فى غاية الأهمية لأن «الشرق الأوسط بوتقة لما يجرى فى العالم». أوضح «مانسفيلد» فى حديثه مع «ميمو» أن اللجوء إلى الاختصاص القضائى الدولى لتحقيق العدالة فى مصر ليس أمرا غير مسبوق، مستشهدا بقضايا أخرى «تثبت الحاجة إلى إنفاذ القانون الدولى». وفصل ذلك بالقول إن «إحدى القضايا التى يحب الاستشهاد بها تتعلق بشىء فعله الإسرائيليون أنفسهم. فلعل الناس يذكرون بأن الأسرائيليين تسلموا فى عام 1961 مجرم الحرب «أدولف آيكمان» من جنوبأمريكا ونقلوه إلى القدس ليمثل أمام القضاء على أساس أنه ما من جهة أخرى كانت ستقوم بهده المهمة». بما أن «آيكمان» كان قد ارتكب جرائم حرب لم يكن سيحاكم بشأنها فى أى مكان آخر، اعتبر الإسرائيليون أنفسهم فى موقع يؤهلهم لفعل ذلك. بالطبع كثيرون، بمن فيهم الأكاديمية اليهودية «حنا أريندت»، انتقدوا «إسرائيل» لأنها حاكمت «آيكمان» باسم المعانة اليهودية بدلا من محاكته باسم معاناة البشرية ككل. وفى هذا المجال لاحظت المنظرة الناقدة «جوديث بتلر» بأن «تدمير وتشريد شعوب بأسرها لم يكن عدوانا على فئات محددة بعينها وإنما على البشرية بأسرها». وخلال المؤتمر الصحفى، قال البرفسور «فولك»: إننا كمواطنين ذوى ضمائر حية فى العصر الحديث لا ينبغى أن نقنع بإحالة الأمور إلى الحكومات أو الدول بوصفها المنفذ لسيادة القانون. إذا كنا فعلا نعتقد بأهمية المجتمع الديمقراطى فإن لنا الحق جميعا وعلينا الواجب كذلك بأن نرفع عقيرتنا فى وجه من يرتكبون جرائم ضد الإنسانية لأننا بصدد جرائم غير قطرية، جرائم ضد البشرية. ونحن جميعا، وبشكل مؤكد وأساسى جدا، بشر قبل أن نكون مواطنى دولة بعينها وقبل أن ننتمى إلى دين بعينه أو عرقية بعينها. بشريتنا تهيب بنا أن نرد على الفظائع والجرائم البشعة». يوافق «مانسفيلد»، بالطبع، على أهمية الجانب الأخلاقى، ولكنه يضيف أيضا جانبا عمليا مؤكدا أننا «جميعا لنا مصلحة، ومصلحة راسخة، فى ضمان حق تقرير المصير لشعوب منطقة الشرق الأوسط بما فى ذلك مصر وفلسطين». الرقابة الجماعية كل من يشك فى أهمية هذه المصلحة الذاتية بإمكانه أن يدركها بمجرد التدبر بما يجرى ضمن حدود بلاده. فيما يتعلق بالمملكة المتحدة يشير «مانسفيلد» إلى ما تقوم به الشرطة من تجسس على الطلبة فى جامعة «كامبريدج» كما كشفت عن ذلك مؤخرا صحيفة «ذا جارديان». وفى الولاياتالمتحدة يستمرون فى توسيع دائرة ما يسمى «قانون الوطنية»، ناهيك عن ممارسة الرقابة الجماعية والتجسس على المسلمين الأمريكيين، والتى يزعم الصحفى «تريفر آرونسون» أنها تمخضت عن اختراع المباحث الفيدرالية الأمريكية لإرهابيين وذلك ببساطة لتبرير قيام عناصرها بالتعدى على الحريات المدنية للمواطنين. على مفترق طرق فى المؤتمر الصحفى نفسه عبر الدكتور «الدرديرى» بصوت يشوبه الحزن عن مشاعره تجاه ما يجرى فى مصر قائلا بأن «مصر اليوم على مفترق طرق»، وأضاف: ما يجرى فى مصر الآن ستكون له تداعيات خطيرة على مستقبلنا جميعا؛ فأى مستقبل نريد لأنفسنا؟ هل نريد مستقبلا من حرب الكل فيها ضد الكل؟ أم أننا نريد مستقبلا من الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان؟ القتال داخل المحكمة سألت «مانسفيلد»: كيف تشكل تجاربه السابقة الطريقة التى يرى من خلالها النضال من أجل العدل والديمقراطية فى مصر؟ فأجاب: توصلت إلى القناعة بأن القتال داخل المحكمة، أى النضال داخل المحكمة فى سبيل تحقيق العدالة، إنما هو جزء من الصورة الأكبر. لن تتمكن من الحصول على العدالة داخل المحاكم ما لم يوجد مناخ خارج المحكمة، أو حتى ثقافة إن أمكن، تمكن الناس من تعرّف سيادة القانون والحاجة إلى ألا تتجاهلهم المعاهدات الخاصة بحماية حقوق الإنسان ومن التوصل إلى قناعة، إضافة إلى ذلك فإن كل ذلك سيسهم فى تحسين الأوضاع الفردية أو الخاصة للناس فى حياتهم العامة. وحينما يدرك الناس أن هذه الحقوق ليست وهمية، وأنها ليست مجردة، وبأنها مهمة فعليا حينما يتعلق الأمر بحقوق التجمع والتعبير والتنظيم وما إليها فإنهم سيتوقفون عن اعتبار ما يقومون به من نشاطات مضمون النجاح بلا عناء، وسيدركون بأن حرياتهم صينت وعاشت لأن شخصا ما اهتم بكسوتها، إذا رغبت، بثقافة الحقوق». يضربون بالقانون عرض الحائظ ومضى شارحا: «المشكلة الكبرى هنا تتمثل فى عدم احترام سيادة القانون من قبل الدول القومية التى تتصرف كما لو كانت جماعات إرهابية، وأعتبر «إسرائيل» واحدة منها، ومن الواضح أن الأمر نفسه ينطبق الآن على مصر. إذا كانت مثل هذه الدول تضرب عرض الحائظ بكل القيم وتقول بأنها غير معنية، وتصر على الاستمرار فى نهجها المنتهك لحقوق الإنسان، ومهما كان المنطق الذى تستند إليه، فإنها ستصبح نماذج مريعة تحتذى من قبل الآخرين الذين سيقولون إذا كانت تلك الدول تتصرف بهذا الشكل فلم لا نفعل ذلك نحن أيضا. وبهذا تذهب فى مهب الريح كل الجهود التى بذلها الحقوقيون والسياسيون عبر قرون فى سبيل إرساء قواعد حضارية للسلوك. ويسود بذلك قانون الغاب، ويصبح الحق مع من يملك القوة والنفوذ». عوار الأنظمة «مانسفيلد» وزملاؤه يحاولون التأكيد على نقطة مهمة، وهى أن حقوقنا فى عالم اليوم ستتوقف باستمرار على حقوق الآخرين. وإذا كان الإطار الحالى لضمان حقوقنا غير مثالى، فإنه يظل إطارا ناضلنا لأسباب أخلاقية قوية فى سبيل إيجاده وسنستمر ببذل الجهود لإصلاحه ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. وأيا كان عوار هذا الإطار، فإنه يتوجب عليه أن يعلى سيادة القانون دونما تمييز، وإلا فإن كل ما نبذله من جهد سيصبح بلا معنى. وطبقا لما يقوله «مانسفيلد» فإن «المشكلة التى تواجه الجميع هى أن القرارات المهمة تتخذ داخل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وهذا المجلس تهيمن عليه الدول الخمس صاحبة العضوية الدائمة فيه، والتى تتمتع جميعها بحق النقض، الذى تمارسه الولاياتالمتحدة خصوصا بشكل منتظم، وبالذات كلما تعلق الأمر بإسرائيل. وتمارسه أيضا فى مختلف الأطر إذا ما قدرت بأن أمرا ما قد يضر بمصالحها القومية، وأيا كانت هذه المصالح. أعتقد جازما أنه يتوجب إلغاء حق النقض وأنه ينبغى تغيير مجلس الأمن». إلا «مانسفيلد» أكد أنه «بالمقابل، لا ينبغى التوقف عن ممارسة الضغوط على الدول الأعضاء، بما فى ذلك على المملكة المتحدة، إحدى الدول الخمس الدائمة العضوية فى المجلس». ويرى «مانسفيلد» بأن هذه ليست السبيل الوحيد المتاح للعمل، ويشرح ذلك قائلا: أظن أن كل جهد يبذل لعزل الحكومة غير الشرعية فى مصر وممارسة الضغوط باتجاه إلغاء الإجراءات المتخذة حاليا ضد الرئيس مرسى، كل ذلك سيكون مفيدا. وعليه، فإنك تبدأ بأعضاء مجلس الشيوخ فى الولاياتالمتحدة وبأعضاء البرلمان فى بريطانيا، وهكذا. لكن، ينبغى أن يكون هناك شكل من أشكال التنسيق بين من يقومون بهذا الجهد، لا مفر من ذلك». ثمة قضايا سابقة يسترشد بها فريق القانونيين الدوليين فى سعيهم لتحقيق العدالة فى مصر، ومنها على سبيل المثال محاكمة دكتاتور تشيلى السابق «أوجستو بينوشيه»، ومنها أيضا إصدار محكمة بريطانية قبل فترة قصيرة مذكرة جلب بحق السياسية الإسرائيلية «تسيبى ليفنى» بشأن دورها فى جرائم حرب ارتكبت خلال الغزو الإسرائيلى لقطاع غزة بنهاية 2008 ومطلع 2009. يشير «مانسفيلد» إلى أنه على الرغم من أن كل قضية تختلف عن الأخرى من الناحية القانونية والسياسية، فإن المشترك فيما بينها جميعا أنها تبعث برسالة واحدة «إلى من تسول لهم أنفسهم ارتكاب جرائم حرب أو الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية مفادها أن بإمكانكم أن تهربوا ولكنكم لن تجدوا مكانا تختبئون فيه. لا يوجد مكان آمن يئويكم، أو الأحرى ألا يتاح لكم الحصول على مأوى آمن». العدالة الغائبة كما حذر الدكتور «الدرديرى» بإمكانكم أن تهربوا فى مصر قائلا: نحن -الشعب المصرى- عازمون على الإعلان على الملأ بوضوح أن ما حدث لن يتكرر أبدا. ولن نسمح بتاتا أن يفلت من العقاب أولئك الذين قتلوننا». رغم أنه من الأهمية بمكان أن يظل الشعب المصرى باستمرار متحكما بمصيره، ما يؤكده بوضوح الجهد القانونى الدولى الساعى إلى تحقيق العدالة فى مصر هو الآتى: وجود المأوى الآمن الذى يمكن أن يلجأ إليه مرتكبو الجرائم ضد الإنسانية، بما فى ذلك مجرمو الحرب فى مصر، من عدمه يتوقف ليس فقط على إرادة الشعب المصرى، وعلى منظماتنا الدولية وعلى دولنا، وإنما أيضا على كل واحد منا، فردا فردا.