مما لا شك فيه أن لأى أمة ذوقا عاما ، و أيضا لها رأيا عاما ، و كذلك لها عرفا عاما ، فالرأى العام يدور فلكه حول الآراء و الافكار والمعقولات ، و العرف العام فلكه و مداره فى العادات و التقاليد ، أما الذوق العام فمداره فى فلك الفن و الجمال . و يتبدى الذوق العام فى كل أنواع الفنون والطعوم ، فنرى لكل أمة أنواع من الطعام تستلذها و تعتز بها ، و قد يختلف أسلوب الطهى لكل أمة عن غيرها للصنف الواحد للطعام و يتعدى ذلك إلى كيفية إعداده ، ونستطيع أن نحكم على أمة بأنها تجيد كذا من ألوان الطعام و أنواعه ، على حين أن أمة أخرى لا تستسيغه ولا تتذوقه . و إنطلاقا من ذلك فإن الذوق العام المصرى يقدر من فنون الموسيقى المصرية أكثر ما يقدره من الموسيقى الغربيه ، و قد لا يستلذها ولا يرى فيها جمالا ، كما أن أكثر الغربيين لا يجد فى الموسيقى الشرقيه طعما ، ولا يقيم لها وزنا ، وربما إن قدر ذلك يكون من باب الفضول و دعوة غايتها التجريب . حتى فنون العمارة و أشكال البناء ، و أنواع الملابس و ألوانها ، و ما يستجمل منها وما يستهجن ، كل ذلك خاضع للذوق العام فى الامة ، لذا نرى أن لكل أمة من هذه الأمم شأنها و ذوقها الذى يميزها من غيرها و يضعها فى درجة خاصة من سلم الرقى الانسانى . فهذا الذوق العام هو الذى يقوم الأدب و يتذوقه ، وهو يجعل لكل أمة أدبها الخاص ، و غناءها الخاص ، و طعومها الخاصة ، و يتذوقه و يألفه العموم فيكون الذوق العام ، ولا يتذوقه الغربيون بذوقهم العام ، كما لا يتذوقون طعومنا و غناءنا حتى نوادرنا المصريه التى تبعث على أشد الضحك و أعمه ، قد لاتحمل الأجنبى على التبسم . نعم قد يعجب المصرى بآيات من الآداب الغربية ، و لكنه لا يتم له ذلك إلا بعد أن يحور ذوقه و يمرنه تمرينا طويلا على تذوق هذا الأدب ، كما يمرن المصرى ذوقه على إستجادة الموسيقى الغربية ، فيستجدها بعد طول المران ، ولكن هذا ليس من الذوق العام فى شئ . و ليس بخفى أن نذكر أن هناك نوعا من الآداب عالميا ، يستجاد إذا ما ترجم لأى لغه من اللغات ، و يعزى ذلك إلى وجود قدرا مشتركا بين العقول ، فإستجادة المصريين لبعض الفنون الغربية أو الغربيين لبعض الفنون المصرية ، شأنه كشأن إشتراك الناس جميعا فى إستجادة بعض الطعوم أو بعض المقطوعات الموسيقيه ، فهذا لا يغير فيما ندعيه شيئا من أن لكل أمه ذوقا عاما خاص بها . و لما كان الناس قد تخضع لأنواع شتى من الاستبداد ، كإستبداد النظم السياسية ، و استبداد العقول ، و إستبداد الرؤساء لمرءوسيهم ، و إستبداد الحكام لمحكوميهم ، و إستبداد القوى للضعيف ، و هذه الصنوف من الاستبداد يمكن لها أن تتلاش أو تقلل من تأثيرها على الافراد ، فيما عدا هذا المستبد بالأفراد بلا حدود هو إستبداد الذوق العام ، فلا سلطان يشبه سلطانه ، و نرى أن بجانب الذوق العام للأمة ذوق خاص بالفرد ، يستجيد به بعض الاشياء ولا يستجيد البعض الاخر ، و يستحسن و يستهجن ، و يستجمل و يستقبح ، ولكنه فى كل ذلك مسلوب الحرية خاضع خضوعا تاما للذوق العام . و لكن إن أنت حاولت الخروج عن الذوق العام و إعلان إستقلال ذوقك عنه ، فإن ذلك لا يتم إلا من خلال ثورة عنيفة على الذوق ، و قد تعرضك لكل أنواع العقوبات الذوقية ..!! فإن رأيت فى أمة مظهرا من مظاهر القبح فيعزى ذلك إلى ضعف الذوق العام ، و إن رأيت بديع الازهار و جمال الطبيعة و لا يخفق قلب الناس لرؤية الجمال ولا يتغزل في محاسنه ، فسبب ذلك يعزى الى ضعف الذوق العام ، و أيضا إن رأيت أمه لا تقدس النظافة ، و لا تشمئز من القذارة و تقبحها و تبغضها ، فيرجع ذلك ايضا إلى ضعف الذوق العام ، حتى إن رأيت فى أى مجتمع أنه لا يرعى نظاما ، ولا يتقيد بآدب اللياقة ، فإن هذا ينهض على ضعف الذوق العام . و من العجيب أن هذا الذوق العام الذى يستبد بنا فى مآكلنا و ملبسنا و مسمعنا و مشربنا ، لا يستبد ولا تجد له سلطان فى هذه الاشياء ، فقد لا يحتقر المرء الذى لا يقوم الازهار ، ولا يزدرى من يسئ فى المجتمعات العامة ، لكن تجده يزدرينى مثلا إن خرجت إلى الشارع ببيجامة النوم أو ذهبت بها الى العمل ، أو أن ذهبت إلى عملى فى يوم حار دون أن أربط رباط العنق ، و يعزى ذلك أن الذوق العام لا يعاقب إلا على ما يتذوق ، و ما هو فى دائرة ما يفهم ، فهو إذا قوم مناظر الطبيعه عاقب من لم يتذوقها ، و إذا أدرك جمال النظام و آداب المجتمعات عاقب من مسها بسوء . و لما كان الذوق العام شأنه شأن الرأى العام ، فكلاهما قابل للاصلاح و الرقى ، فالرأى العام يرقى بإنتشار الثقافة و التعلم و تعميم التربية ، و يبذل فى ذلك الكثير من البرامج و المجهودات لترقية الثقافه العقلية ، وبرامج تطويرالتعليم و التربية العقلية و التى فى النهاية تساهم فى ترقية الرأى العام ... لكن للاسف الشديد لم توضع برامج لتربية الذوق العام و لم يبذل من الجهد فى ترقيته و رفع مستواه ، و الدليل فى ذلك أننا لنا زعماء ساسيون و زعماء عقليون ، ولكن ...... لم يكن لنا زعماء فنيون . و قد يرى البعض أن يبحثون فى ترقية الفنون عامة من موسيقى و تصوير و غناء و أدب و ... الخ ، فأنهم مخطئون كل الخطأ ، لأنهم يحاولون أن يصلحوا النتائج من غير أن يصلحوا المقدمات و الاسباب ، فإن الفنان فى الامة ما هو الا صدى لذوقها العام ، فإن علينا أن نبحث فى الاسباب لتنتفى النتائج ، فإن صح الذوق صح الفن. [email protected]